يقع شبه إجماع بين رجال السياسة وخبراء الاقتصاد وصناع القرار على أن أفريقيا قارة المستقبل بلا منازع، فهي في نظرهم “أفريقيا الواعدة” و”الهند السمراء” و”الصين الثانية”… وذهب بعضهم إلى حد اعتبار هذا القرن “قرن القارة الأفريقية”، بعد توالي مؤشراتٍ تؤكد ذلك على الأصعدة كافة؛ الطبيعية والديموغرافية والاقتصادية.
تحظى هذه القارة بموقع استراتيجي متميز على الصعيد العالمي، يعزّزه غنى الموارد الطبيعية وتنوعها؛ فهي صاحبة ثاني أكبر بساط أخضر في العالم، بإمكانات هائلة في مجال الزراعة، وموارد مائية غنية، حيث يجري فيها 13 نهرا، يؤهلها ذلك كله لأن تكون سلة الغذاء العالمي. ولها احتياطيات طاقية ومعدنية مهمة؛ فمن أصل 50 معدنا عالميا، تتوفر القارة على احتياطي ضخم في 17 منها. ومقومات بشرية هائلة، أساسها هرم ديمغرافي فتي؛ ما يوفر يدا عاملة نشيطة ورخيصة.
واقع جعل القارة في قلب الصراع والمنافسة بين القوى الاستعمارية التقليدية بمبرّر الشرعية التاريخية (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا…)، والقوى القائمة حاليا دفاعا عن مصالحها (أميركا، الصين، الهند..) والقوى الصاعدة (تركيا، إيران..) للحصول على نصيبها من الاستثمارات في البلدان الأفريقية.
وظهر ذلك بوضوح في النمو المطّرد الذي سجل في السنوات العشر الأخيرة، فبحسب صندوق النقد الدولي، تراوحت النسبة ما بين 5 و10%، ما جعلها أكثر القارات نموا في العالم. هذا واعتبر خبراء أن أفريقيا جنوب الصحراء تشكل حاليا الحدود الأخيرة للنمو العالمي، فقد شهدت هذه المنطقة أسرع نمو في العالم، بعد البلدان النامية في آسيا. وضمن أفضل عشرة بلدان حققت أسرع نمو في السنة الماضية، هناك ثلاثة اقتصاديات أفريقية، هي تباعا إثيوبيا وساحل العاج وتنزانيا.
تفيد دراسات استشرافية بأنه في حلول عام 2030، يمكن لقطاع الزراعة والصناعة الغذائية في أفريقيا إنشاء سوق بقيمة تريليون دولار، وذلك في حال استغلال الموارد المائية المتجدِّدة التي لم يتم استغلال سوى 2% منها.
ويتوقع البنك الأفريقي للتنمية أن تتحول أفريقيا إلى سوق استهلاكية كبيرة، نظرا إلى نموها الديمغرافي السريع. فبحلول سنة 2050 ستبلغ ساكنة القارة حوالي 2,4 مليار نسمة؛ أي ربع سكان العالم. في زيادة يرافقها توسع حضري كبير، سيكون الأسرع في العالم، ومن المنتظر أن تصل الساكنة الحضرية إلى 1,2 مليار نسمة.
لم تؤثر كل هذه المؤشرات والتوقعات على معادلة التغيير والتنمية في أفريقيا، كي تستقيم أو تتحسن على الأقل، فالغنى والتنوع الطبيعي لم يحُولا دون استيراد القارة 83% من احتياجاتها الغذائية المصنعة من الخارج. ويعد الإنتاج الزراعي من أدنى الإنتاجيات في العالم؛ بحسب المدير التنفيذي في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة. هذا، ولا تزال القارة موطنا لأعلى نسب الفقراء في العالم، على الرغم من نسب النمو الذي شهدته خلال العقد الماضي.
وقال القائم بأعمال رئيس الخبراء الاقتصاديين لمكتب منطقة أفريقيا في البنك الدولي إن أفريقيا سجلت في العشرة أعوام الماضية نموا أسرع من معظم المناطق الأخرى، لكن آثار ذلك النمو على الفقر أقل كثيرا مما كان متوقعا. فضمن أفقر 20 دولة نجد 17 دولة من القارة الأفريقية.
وكان تقرير “نبض أفريقيا”، الصادر عن صندوق النقد الدولي، قد أكد قبل ذلك أن معدلات الفقر وعدم المساواة ما زالت مرتفعة بدرجة كبيرة، ووتيرة انحسارها بطيئة بصورة غير مقبولة؛ حيث يوجد واحد تقريبا من كل اثنين من الأفارقة في وضعية فقر مدقع. ويضيف التقرير أن “معظم فقراء العالم سيعيشون في أفريقيا في العام 2030″، فوفق أكبر المتفائلين لن تتجاوز معدلات انخفاض الفقر ما بين 16 و30% بحسب التقرير نفسه.
انحصار أثار هذا الاهتمام المتزايد بقارة المستقبل في بلدان عُرفت تاريخيا بأنها جاذبة للاستثمارات الأجنبية، كجنوب أفريقيا ونيجيريا وكينيا وغانا…، تضاف إليه محدودية وقع تهافت الدول الكبرى على دول أفريقية جديدة، مثل ناميبيا وتنزانيا وأوغندا وأنغولا والكونغو وساحل العاج وموزمبيق وإثيوبيا، يعيد إلى الأذهان فكرة الاستعمار الجديد، تحت مُسميات التنمية والاستثمار والتحديث.
فأي معنى يعطيه عاقل لما يجري في أفريقيا الآن غير ذلك؟ وكيف يمكن قراءة صراع الكبار للاغتناء من خيرات القارة، في وقت يتركون فيه الفتات لأبنائها؟ وما موقع البرامج الدولية والأممية عن جدليات الاستثمار والتنمية، من الإعراب في السياق الأفريقي؟
ثم أليس كونها “قارة المستقبل” مبرّرا للبحث عن سبل لترشيدها، بدلا من تكرار أخطاء الماضي في أميركا اللاتينية وآسيا؟ وهل من بدائل أخرى عند استنزاف آخر الموارد على سطح هذا الكوكب؟ وماذا عن السؤال الأكبر المتعلق بعلاقة الاقتصادي بالتنموي بالديمقراطي؟ ثم ألا يفترض أن تلتحق مؤشرات البناء الديمقراطي بمؤشرات معدلات النمو الاقتصادي في البلدان الأفريقية؟ وعلى فرض تحقيق الإقلاع الاقتصادي، هل سيميل الأفارقة في تجربتهم نحو النموذج الهندي أم النموذج الصيني؟
ما أكثر الأسئلة التي تحاصرنا جميعا عند الحديث عن القارة السمراء، لأنها وبكل بساطة الرقعة الجغرافية الوحيدة التي ما تزال تحافظ جزئيا على طراوتها، ولم تتعرّض للتجريف والاستنزاف الكلي. ما يفترض من الجميع التفكير في أساليب عقلانية ناجعة، تجنب هذه القارة البكر مصير سابقاتها، وتعمل على تحويلها حقيقة إلى قارة المستقبل.
كاتب التدوينة: محمد طيفوري