الإنسان ذئب للإنسان – قراءة في كتاب «ليال بلا قمر» لـ عبد الرحمن خواجا

كنتُ بصدد قراءة رواية في أدب السيرة للكاتب النمساوي ستيفان زفايج، عن الرحالة البرتغالي الكبير ماجلان، عندما توصلتُ بنسخة من مذكرات الأخ الكريم عبد الرحمن خواجا عن تجربته في المعتقلات السرية، بدرب الشريف أولا لمدة ثمانية أشهر، فقصر الباشا وقلعة ﻤﮔونة وآﮔدز، حيث سيقضي مع رفاق الألم مدة 15 عاما، من سنة 1976 إلى 1991.

طبعا، ستنقطع عنهم خلال هذه المدة الطويلة بسنواتها المريرة بعذابها والقاسية بظروفها، أخبارُ العالم الذي كان يشهد تحولات كبرى على المستوى السياسي والاجتماعي والتقني… واللائحة مفتوحة على كل الإنجازات العلمية والهندسية والطبية والديبلوماسية.

أجلتُ إتمام قراءة سيرة ماجلان، فانكببتُ على مذكرات عبد الرحمن التي تشتمل على ثلاثة أجزاء قصيرة الطول، يحمل الأول منها عنوان «بين درب الشريف وقصر الباشا»، والثاني «في جوار الورد»، والثالث وهو عبارة عن نصوص شعرية جادت بها قريحة الكاتب الشاعر في سجنه -حسبما فهمت- «بوح الجراح»، وقد أثارني منها نص لا أتردد في نعته بالنشيد، وأستغرب كيف لم يتم تلحينه إلى الآن وهو يحمل في طياته لحنَه ولن يتطلب من الملحن المفترَض جهدا كبيرا، لكنه يحتاج بكل تأكيد إلى صوت شجي يؤديه ويوصله للأطفال والأمهات.. 

جاء النشيد –حسب فهمي أيضا ولست عارفا ببحور الخليل ولا مَن استدرك عليه–  في بحر المتدارك على غرار قصيدة ميخائيل نعيمة الشهيرة التي مطلعها: «سقف بيتي حديد .. ركن بيتي حجر» وقصيدة الشابي التي مطلعها: «اسكني يا جراح .. واسكتي يا شجون»، وما لا يعرفه الكثيرون هو أن قصيدة نعيمة قد تغنى بها المطرب محمد الحياني ولو أنه تصرفَ شيئا ما في كلماتها مع الاحتفاظ بلازمتها التي أوردتُ أعلاه. أقتطفُ هنا من نشيد عبد الرحمن، الذي هو استلهام للنضال المستميت والبطولي  لنلسون مانديلا،  الآتي:

 خابَ سعي لمن    لم يهم بالصعاب

خدمةً للوطن       طعمها كالرضاب

رب هاو فُتن        فتحرى العذاب

هل بنلسن جنون     أم إلى اليأس راح

إذ أبى أن يكون     خاملا في سراح

وانزوى بالسجون    في انتظار الصباح

مولَ ملك إسبانيا كارلوس الخامس، سنة 1519، أسطولا بحريا يقوده ماجلان إلى البحر الهندي، ومن ثَم إلى جزر الملوك بإندونيسيا الحالية، جزر التوابل التي بدأ الأوروبيون يتعرفون عليها وعلى مزاياها في الطبخ، وقد كان البهار آنذاك، في أوروبا، أغلى من الذهب.

انطلقت مراكب ماجلان تمخر عباب بحر الظلمات، فالهادي (ماجلان هو الذي أطلق اسم الهادي على هذا المحيط وبه مضيق يحمل اسمه)، والهندي، تواجه الأمواجَ العاتية وتقلبات الطقس وأخطار القراصنة، للظفر بالتوابل النفيسة نفاسةَ الحجر الفلسفي في يونان القديمة، وإنشاء مراكز تجارية بالمناطق المستكشَفة ولِما لا بسط اليد عليها إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا!

في حين ذهب عبد الرحمن من منطقة الصحراء إلى «الداخل» طلبا للعلم، إذْ كان يتابع دراسته بكلية الطب بالرباط عندما حل بشقته، المتواضعة تواضعَ طلاب العلم، زوارُ العتمة فأخذوه وهو لابس جلبابا أحمر إلى وجهة غير معلومة، سيعلم فيما بعد أنها درب الشريف سيِّئ الذكر، حيث سيذوق شتى أصناف التعذيب (الجسدي والنفسي)، وأغرب أنواع الإهانة من أشقائه الأعزاء في الإنسانية والتاريخ والجغرافيا والجينيالوجيا (علم الأنساب).. 

سيتم ترحيل عبد الرحمن إلى أحد «قصور» اﻠﮔلاوي المهجورة، فقلعة ﻤﮔونة، وآﮔدز، حيث سيلتقي بمعتقلين سياسيين آخرين ومعتقلات سياسيات، من الصحراويين والصحراويات، وهم وهن في الغالب من مدينة الطنطان المعروفة إلى اليوم بموسمها الكبير، الديني والتجاري، الذي أصبح من فترة من التراث اللامادي العالمي.

ومن غريب ما يسمعه المرء هو أن هذه المعتقلات الرهيبة قد ضمت بين جدرانها الكئيبة أُسَرا بأكملها، من أب وأم وبنت، أو أب وابن، وقد حصل أن عاينَت فتاة، لم يَعد لها من صفات الفتيات سوى الاسم والإرادة (بسبب ضراوة التعذيب وسوء التغذية) موتَ أبيها داخل السجن وهي لا تملك له سوى الدعاء والدموع التي نضبت هي الأخرى وما عادت تسعف البواكي.

بالرغم من الحراسة المشددة والتضييق المبالغ فيه، تمكن المعتقلون، خلال فترة ما، من الحصول على مذياع من أحد الحُراس (كان استثناء داخل قاعدة صارمة)، فاستطاعوا الوقوف على بعض ما كان يجري خارج أسوار المعتقلات، ولمقاومة الوقت القاتل والملل الساحق، فقد اهتدوا إلى فكرة عبقرية هي تنظيم أنشطة ثقافية، وحصص لتعليم مَن لم يسمح له الحظ بولوج قاعات الدرس عندما كان حرا طليقا. تم إطلاق سراح المعتقلين سنة 1991، بقرار من الحسن الثاني وبملتمس (مدروس) من أحد أعيان الصحراء، فعانقوا الحرية من جديد.

راودت فكرةُ الكتابة عن تجربة الاعتقال عبد الرحمن خواجا، فلم يقاومها، وكان طبعُ هذا الكتاب الهام بمحتواه وأسلوبه وبطبيعة كاتبه، عام 2015، بإحدى مطابع الرباط التي شهدت اختطافه ذات ليلة، وأضحى ممكنا لنا، نحن القراء الشغوفين بالتجارب القصِية للكائن البشري، التعرفُ على تجربة فريدة، ليلة هي لصاحبها بمثابة أم الليالي (هذا عنوان أول فصل من الجزء الأول من الكتاب): « لم تكن تلك الليلة في ظاهرها سوى ليلة كسائر الليالي، إلا أنها كانت ليلة بلا قمر! موقعها في تاريخ الميلاد هو السابع عشر من مارس من السنة السادسة والسبعين من القرن العشرين، لكن وقعها في ذاكرتي لم يكن يعد بالساعات، وإنما بالشهور وربما بالسنين…»   

كاتب التدوينة: هيبتن الحيرش

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

Exit mobile version