منذ وعت عقولنا معاني المصطلحات وتشبث وعينا بالمفاهيم والدلالات نشأنا على منظومة من القيم التي اعتبرها المجتمع نموذجا للصفات الخيرة والنعوت الحسنة التي تقوم سلوك الإنسان وتحدد طرق تعامله مع الآخر.. فـ الأخلاق هي الوجه الثاني للإنسانية واللبنة الأساسية للذكاء الاجتماعي، وهي المعيار المثالي لتقييم الإنسان الناجح والمحبوب.
عندما نذكر كلمة الأخلاق تتمثل لنا لزوما وبالتوازي مع حزمة من المفردات الرنانة والجذابة كالتعلم والوعي والثقافة والشباب والتربية والرقي..
وهي المفردات التي من المفروض أن تكون هالات تطوف بنخبة البلاد وبالخصوص الطلبة من رواد الحرم الجامعي الذين يرتشفون باستمرار من روافد العلم والمعرفة خاصة أن التعلم في علاقة وطيدة بالتخلق باعتباره منارة معرفية تضيء لنا سبل التكون والتطور والارتقاء، ولكننا اليوم نصطدم مع واقع يتباين تماما مع المأمول!.
نسمع يوميا من الأجيال السابقة والكبار سنا أننا جيل له خصوصياته وأننا وصمة سوداء قاتمة من الفحش والبذاءة والسوء مقارنة بهم.. فهل ذلك حقيقي؟
في الحقيقة نحن لا نختلف كثيرا عنهم عندما كانوا في مثل أعمارنا ولكن ما يختلف هو كيفية تعاملنا مع مقتضيات الحاضر وتطبعنا بما تقدمه لنا وسائل التواصل السمعية والبصرية وتميزنا بحاجتنا الكبيرة للاختلاط الاجتماعي لذلك يشعر الفرد بأنه لبأس بأن يصرخ في الشارع أو يشتم صديقه في الحافلة المكتظة بالركاب أو يدخن في مكان يمنع التدخين فيه أو يفتك مكان أحدهم في طابور طويل، متعللا بأن الجميع يفعل ذلك!
إنها راحة السلوك الجماعي، أن يطمئن الإنسان كونه ليس شاذا بفعله ولو كان الفعل غير مقبول أو غير أخلاقي وهذه المشكلة لم تعد في صفوف العامة وحسب وإنما انتقلت إلى مقاعد الجامعة ومن ثم إلى أصحاب الشهادات وبالتالي إلى الموظفين الذين يمثلون الوجه الأول للقطاع الحكومي..
وإنها الآفة الكبرى أن نجد نخبة دون أخلاق وأجيالا غارقة في محيط من الانسياق الأعمى لنماذج سيئة في مجتمع متفكك يعاني من مشاكل لا تحصى ولا تعد.
إننا في وضع خطير وفي مجتمع موبوء نجد فيه أصحاب الشهادات العليا وخريجي الكليات وروادها أشبه في ملبسهم بقطاع الطرق وبمغني الراب وبرواد الملاهي الليلية والمجالس الخمرية فالشبان يتخلصون من أحزمة سراويلهم حتى يسقط ليكشف عن ماركة السروال الداخلي والبنات يلبسنا تنانير طولها بضعة إنشات ونصف قميص يستر ما فوق الصرة وحسب..
بينما من المفروض أن يتقيدوا إناثا وذكورا باللباس المحترم خاصة داخل الحرم الجامعي.
إنما الأخلاق تنعكس بالضرورة على هيئة الإنسان فأرني ما ترتدي أقول لك من أنت..
والمرجع في ذلك ليس مرجعا دينيا على الإطلاق مع أن الأديان جمعاء تحث على الخلق السليم ولكن فلنأخذ اليابان على سبيل المثال إن مبادئ الاحترام هناك تشهدها بالعين المجردة ومن ثم قولا وسلوكا وهذا ما يجعل منهم بلدا يقدس الأخلاق والعمل باعتباره أيضا معيارا للخلق السليم.
بعيدا عن اللباس إن نخبنا اليوم تشهد أزمة عذوبة لسان وتقويم سلوك.. وإنه لإشكال مقيت أن يتقاطع التحصيل العلمي مع التدني الأخلاقي فينتج لنا خريجا أو موظفا غير متأدب وحاد فعل وسليط لسان.
تدني الأخلاق | ولكن ما هي الأسباب الحقيقية وراء هذه التركيبة المؤسفة لنخبة العصر الحديث؟
التربية
يقول سقراط “التربية الخلقية أهم للإنسان من خبزه و ثوبه “.
إلا أننا بالفعل نشهد باستمرار التربية السيئة للأطفال ذلك أن العائلة في حد ذاتها تفتقر كل الافتقار إلى أدنى مقومات الأخلاق، فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه؟
النرجسية الخبيثة
أي أن ترى في نفسك ما ليس فيها وأن تعطي لنفسك الحق في قصف حقوق الآخرين والتعدي عليهم..
ذلك الشعور الداخلي القوي بالاستحقاق والعظمة الزائفة الذي تحدث عنه طاغور فقال مصححا: “إننا ندنو من العظمة كي نكون عظماء في تواضعنا.”
فمن يرغب حقا في أن يكون عظيما فليتحلى بالتواضع فهو إكسير الخلق.
البيئة والمجتمع
إن الطبع البشري حرباء تتلون مع البيئة التي تحيط بها فإذا شب الفرد في محيط يقدس الفضيلة ويعتز بالقيم صار نموذجا مثاليا لما تعلمه من أخلاق وإن نشأ على السفالة والسفاهة والإجرام شاب على ذلك أيضا.
الجهل
رغم المستوى التعليمي الجيد الذي تمتع به أصحاب الشهادات العليا إلا أن معضمهم نماذج حية للجهل الاجتماعي والأخلاقي والتربوي المدقع.
النفور من الدين
إن الأديان جعلت لتقويم السلوك البشري وهي الدستور في نسخته البدائية الذي وضع وصايا وقواعد العيش الجماعي.
الضغوطات النفسية
قد تدفعنا الضغوطات اليومية والمشاكل الحياتية إلى عقد نفسية تؤثر بشكل مباشر على سلوكنا مع الآخر وبالتالي على أخلاقنا أيضا.
اليأس من الإصلاح
هناك من الناس من مضت به السنوات وهو أيقونة في الرداءة الخلقية..
وكلما هاتفه الضمير والعقل أسكته أنه عليل بلا دواء فهو شديد الابتلاء، وهذا للأسف من أشد الأخطاء البشرية القاتلة.. اليأس لا يجعل منك غير دابة بلا دافع ولا روح.
ستبقى الأخلاق الأساس الأصح والتمثل الأرقى للنبل الإنساني ولا يمكن مطلقا للمثقف أن يكون مثقفا إن كان رذيل الخلق ولن تمثل شهاداتك الأكاديمية المتراكمة إلا كومة من الأوراق البالية الفاقدة لأي معنى إن كنت مثالا سيئا كإنسان وكخريج.
فلتعطي معنى لحياتك كلها بالأخلاق التي ستشكل فارقا كبيرا في مسارك التطوري كإنسان، كفرد من المجتمع، كمخلوق مكلف، كعقل مفكر وككيان يسعى إلى الرقي وإلى نهضة ذاتية دائمة.
2 تعليقات