يعيش المغرب الكبير نوعا من التثبيط والإحباط، خاصة لدى الشباب الذين يتحلقون على قارعة الطرقات مستمتعين بمضايقة الفتيات والمارة، وهذه الظاهرة قديمة للغاية، فأنا مثلا شاهد عيان على هذه الظاهرة البليدة، وعلى الرغم من كافة المواعظ التي يلقيها الأئمة في المساجد بين الفينة والأخرى تذكيرا بنقمة ظاهرة “التسكع” مطالبين الناس بإعطاء الطريق “حقها”، ورغم بعض القوانين في بعض بلدان المغرب الكبير التي تجرّم من يضايق المواطنين ويعرقل مصالحهم، إلاّ أنّ الظاهرة مستمرة وباقية، فالشباب لا يملّ من عدّ المارة ولا من التشويش على من يعبرون الطرقات رغم الأحوال الجوية السيئة أحيانـا.
في الوقت الذي نجد شبابا من أمم أخرى يصارع الوقت ويسابق الزمن من أجل الأخذ بناصية المعرفة وكشف أسرار الكون، نجد الشباب العربي “المغرب الكبير كعيّنة” يبحث عن أيّ طريقة لإضاعة الوقت، وللأسف! في كل ما لا يفيد البلاد والعباد، فقد اجتهد هؤلاء فقط في المجالات التافهة، فتراهم يتسابقون على المقاهي لإنعاش النميمة، وتراهم يتهافتون على بائعي السجائر والمخدرات والمهلوسات على أنواعها أو حتى الخمور من أجل تغييب عقولهم، ثم تجد معظمهم يقفون مصطفين على قارعة الطرق ينتظرون أي فتاة تمر عليهم ليزعجوها طلبا لممارسة الجنس معها، وهي كلها تجعل الروح تقف حائرة أمام هذه الأجناس الغريبة عن كافة مبادئ المجتمعات المغاربية، فيا ترى لماذا لا يكون شباب هذه المناطق كشباب الأمم الأخرى؟ لماذا لا يتنافسون في رصد العلوم وإقامة الآداب ونظم الفلسفات؟
أوروبا هي القدوة الواضحة لهؤلاء الشباب، وأميركا هي أبهى النماذج عند معظمهم أيضا، لكن وكما يبدو لم يأخذ هؤلاء من هذين المثاليْن سوى الفواحش ونبذ القيم ورذالة السلوك، فيا ترى هل معظم شباب أوربا أو أميركا عاطل يقلب حياته بين هلوسة وإزعاج؟ لا أعتقد ذلك. الإسلام يدعو إلى طلب العلم، المسيحية تدعو إلى الأخلاق، اليهودية تدعو إلى الرفعة، الإلحاد يدعوا إلى التحكم بالطبيعة، فمن أيّ دين هؤلاء؟
عندما تابعتُ أخبار إعصار هارفي الذي ضرب تكساس، تمنيتُ لو أنّ إعصارا روحيا يضرب هؤلاء الشباب ليهز ما بقي في أفئدتهم من همّة، أعلم أنه ليس من السهل استعادة أرواح لم تعد تثق في الديانات ولا بالإيديولوجيات، وأنها صارت تتخذ العشوائية نظاما لها تنتظر بها الموت ليس إلّا، لكن السعي هو واجب على كل فرد، والاستسلام ليس من شيم أبناء المغرب الكبير..
فكم هو الشباب المغاربي بحاجة إلى هارفي-روحي يعيد له الأمل، ويعلّمه بأن الحياة رغم قساوتها تمنح فرصا للعاملين المجتهدين، وهناك الكثير من الأمثلة من ماليزيا إلى فيتنام، من نيجيريا إلى كوبا، لأنّ الرهان الأوّل والأخير في صناعة الحضارات هو على “الإنسان” دون غيره.
صناعة الأفراد هي في الأصل صناعة للمستقبل وإنتاج للأمم، لقد غفل القادة عن هذه الشروط الضرورية، وراحوا يحاولون بث ثقافة المواد في النفوس، تلك التي أنتجت في النهاية شباب الطرقات هؤلاء، أنـا لا أرى فيهم “مذنبين” بقدر ما أرى فيهم أنهم نماذج لضحايا الغرور والجشع المتهوّر للإنسان، لمن عبث بمقدرات الأمة المغاربية نجح إلى حد بعيد في بث اليأس في أنفس أعمدتها، في نفوس الشباب.
لم يفت الأوان بعد! على كل شاب أن يعود إلى مكانه الذي نحن بأمس الحاجة إليه، نحن في حاجة إلى النجار والطباخ، بحاجة إلى الميكانيكي والبناء، بحاجة إلى الحكيم قبل أن يكون طبيبا، بحاجة إلى “الرسول” قبل أن يكون معلّما، كفانا من نظام التملّق والنفاق الاجتماعي هذا، فإنه لم ينتج لنا سوى أشباه بشر يجلسون من طلوع الفجر إلى غروب الشمس تحرسهم الطرقات بكافة أنواع شرورها.