خواطر أدبيةمدوناتمدونات أدبية

اختيارات المُختار

اختيارات المُختار

من الطبيعي والجيد أن يحين عليك وقت تتفقد فيه نفسك ولا تستطيع التعرف عليها، ستمسك الرماد الذي تبقى من آخر حريق أضرم داخلك هو الآخر، لن يطول بين يديك سيغادرك مع الرياح التي تهب عليك بين الفينة والأخرى، سيرحل كما رحلت منك نفسك وتركتك أرضا بورا.

ستلتف يمينا وشمالا لتمد جسور الوجع إلى مقربيك ليخففوا وطأة الألم داخلك، لكن لن يغيروا شيئا؛ لأن الألم الذي أصبت به أراد أن يواجهك أنت فيصير وجودهم كعدمه لن ينفع ولن يضر بشيء.

هي معركة اختارتك أن تكون الطرف الوحيد فيها، أسلحتها أفتك من الأسلحة المعتادة في الحروب.

ستمضي بدون وجهة ولا غاية، ستتوه عليك أحلامك هي الأخرى وتتفنن الأيام في صناعة مطب أجمل من الذي سبقه، ستتوالى الشدائد تباعا، ستكسر عودك بلا رحمة وستوزع فيك جراحا غائرة لا يداويها ألف طبيب.

جراح تستكين تارة وتفيض كبركان تارة أخرى، سيتملكك صراخ يسيطر على أسناخك الرئوية حد الاختناق، ستجاهد لتخرج ذاك الشعور الذي لا يأبى أن يفارقك لوهلة، ستعبر عنه دون مراء لكن دون جدوى.

روحك تفضل التمسك بآلامها وترفض أن تقاسم ما بها وإن أرادت ذلك لن تتمكن من أن تصور وتجسد ما يجتاح كيانها، سيغيب النوم عنك ليال طوال تشتد فيه حلكة الظلام ويغيب الفجر الذي تنتظره هو الآخر، سيتخلف عن موعده معك ستمر بأيام عجاف وقد تطول لسنوات تجمد الإحساس داخلك.

مهما حاولنا أن نصف هذه الأحاسيس التي تمر بنا جاهدين لن نتمكن، هي أصعب من الوصف وأبلغ من أن تحكى هي تستشعر وتعاش، ويكون مفعولها أقوى حينما يكون الصراع داخلنا، هي حرب ضروس جاءت لتصقلنا وتحمل عنا عيوبا لم تكن في فطرتنا، التصقت بنا في معبر الحياة، جاءت لتبين مشاهد الحياة  وتجعلها أكثر وضوحا ليسهل علينا عبور هذه المحطة المؤقتة، التي لولاها لما اجتزنا صعابا كان من المستحيل علينا اجتيازها.

لا تيأس!

هذه الصعاب بمثابة الفيروسات الدخيلة على الجسم؛ إذ تُحدث ارتباكا مؤقتا في جسمنا ونعود كأنها لم تصبنا، وإن عادت فلن تضر كما قبل فقد، تكونت لدينا مناعة منها.

لا تيأس! كن على ثقة تامة بأنها بداية بدايتك، فاستعد لأن تصبر وتصابر وتمضي بكل بلاء وفيك يقين يملأ أرجاءك أنها ما اشتدت إلا لتفرج، وتعلمك أن الصبر هو مدخل من مداخل الجنة ومفتاحك الوحيد في الدنيا، وأنها دار ابتلاء لا دار سلام، فكل يوم أنت مطالب باجتياز امتحان فاستعد وذاكر له جيدا لتحصل على درجة تشرفك في الدار الآخرة، وأن لا تكون من المخزين في النهاية، تَمسَّك بالصبر، وتأكد أن الصبر هو مرجعك الأوحد.

فما أبلغ سور القرآن حين روت قصصا عن الرسل كانت نهاياتها إكراما عظيما وجبرا لكسور، ما اعتقد أصحابها يوما أنها ستجبر، كقصة أيوب ويوسف -عليهما السلام-.

ولا أبلغ من قول العلامة الطباطبائي في وصف حاله: “فهذه أسباب وأُمور هائلة لو توجّهت إلى جبل لهدّته أو أقبلت على صخرة صمّاء لأذابتها”. إلاّ أنّ كلّ شيء يضمحل ويتفتّت أمام المحبّة الإلهية التي تمرر الشدائد على قلوب عباده كنسمات ريح خفيفة.

هي عبر لو اتسعت حذقة العين لرؤيتها لغشاك الاطمئنان وشملت بهدوء يسكن كل صراخ داخلك، هي تجارب لا تدعو إلى التحلي بالصبر فقط بقدر ما تخرجك من الدائرة التي انغمست داخلها، وغابت عنك فيها رؤية كل جميل يمكن أن تتناسى معه كل ما اعتقدت أنه لن ينجلي وسيرافقك في كل درب تسلكه في الحياة، هي تجارب قادرة على أن تخرجك من القوقعة التي قبعت فيها.

اختيارات المُختار

ستبعد نظرك لتتمكن من الرؤية، فكلما ابتعدت اتضحت لك أكتر، هي مسألة وقت لا أقل ولا أكتر، فلِمَ التضجر والاستياء، فالحياة أعمق بكتير من أن تقضى هكذا، فما عليك إلا أن تلملم جراحك وأشلاءك المتناثرة، وامض بآلامك وأحبها وتعايش معها، ولا تحاول الهروب منها، لا تأبه بداخلك المكلوم، تقبله كما هو، ولا تهرب من هذه الأقدار، اختر أن تواجه بدل أن تدير ظهرك وتتلقى الكدمات، اجعل اليقين داخلك وإن لم تتظاهر به، عش آلامك وأنت في أوج ضعفك لأنها مرحلة ستمر بكل تأكيد، ومن المعيب أن تخرج ولم تستفد منها شيئا.

خذ تلك الجراح على أنها تذكار وُضع فيك لتذكره كلما أقدمت على أي خطأ من الممكن أن يودي بحياتك في طريق لن تعجبك نهايته في الآخر، تجاهل كل صوت يوهمك بأنك ضعيف وبأن هذه المصيبة هي نهايتك، هي فقط وسوسات تود أن تبقيك ساكنا في مكانك، هي أقدار قدرت لك قبل أن تتشكل في رحم أمك، تعامل معها برزانة وثبات، حيث قال رب العباد (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير).

افتخر لأنك اخترت من قبل الله عز جلاله ليشد عودك، ولم يرض لك الضعف، بل أراد أن يقويك لتصنع جميلا على هذه الأرض أو رآك بعيدا فأراد أن يقربك منه، حاشا لله أن تتحسر على أعطياته..

أنظر إلى المحن على أنها منح

أنظر إلى المحن على أنها منح، هي فعلا كذلك لأنها ستغيرك للأفضل وستصنع منك شخصا أفضل من الأول.

اجعل الله داخلك وأقبل على منحك وأنت راض من أن لكل صبر وطول أناة فرج قريب، وأن الله حافظك مهما اشتد عليك الحال وطال (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيينا وسبح بحمد ربك حين تقوم).

فما أجمل أن تكون بمرأى ومنظر من الله يرى ويسمع ما تقول وتفعل، يراك، ويحفظك، ويحرسك ويرعاك، ليس هناك جزاء أعظم من هذا، فاحمل حب الله في قلبك وامض وستكون النائبات على قلبك بردا وسلاما.

جميع المقالات المنشورة (خواطر أدبية) تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي يوث.

أظهر المزيد

خديجة السالك

مدونة مغربية، علمية التخصص أدبية التتيّم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى