يموت البعض في الحروب وهذا من جمال حظهم، فالموت في زمننا رحمة إلهية فاخرة، تبعدك عن الكثير من السيناريوهات السيئة، فالحياة خارج الوطن مأساة أخرى لا تقل سفكا عن الحرب داخل الوطن، التشرد ،اللجوء، نظرة المجتمع، صمت الهيئات الحقوقية، و جمعيات حقوق الإنسان، تجعلك تحتضر يوميا، وعند كل مشكلة بسيطة، ينخفض رأسك، ويذهب صوتك، تحاول تغير لهجتك كي لا تنكشف، لكن ملامح الألم تظهر جنسيتك وسط كل مجتمع تلجأ إليه.
لم تكن سوريا البلد الوحيد الذي دقت الحرب بابها ففتح ابن الوطن، ورحب بها معلنا ضيافتها لأجل غير معلوم، مقدما لها في كل وجبة أرواح أبنائه رجالا ونساء، لتبقيه زعيم كرسي هش، ورئيس لبلد لا نكاد نراه إلا من عاصمة يبسط عليه يده، عروس المشرق العربي ترملت، ويُتم نصف أطفالها، فلا بيت يجمعهم، ولا سلام يطمئنهم، مشتتون في العالم، يسألون عن بعضهم البعض من وراء الشاشات، وخلف سماعات الهاتف، يسألون عن الموت الذي يطاردهم.
سمعت عن سورية تزوجت في المغرب من دون مهر، وعن أخرى سرقت في تونس، عن خادمة في بيت لبناني، ومعنفة في الخليج، وعن خائفة في الأردن من دورية تفتيش، عن أم تصارع رغيف الخبز في العراق، وعن جميلة تختبئ بداخل النقاب في اليمن خوفا من الذئاب البشرية، عن مراهقة تبكي المعاكسات الجارحة في مصر، وعن مذكرة تسول تخدش القلوب في الجزائر.
حتى وإن كان القصد من مذكرة شهادة الماستر لطالبتين بالجامعة الجزائرية، مساعدة المرأة السورية، وتجنيبها التسول في الشارع، كان الأحب إلى قلوبنا جميعا أن لا نقحمها في عنوان مهين، نحن لا نبحث عن أعذار لتلك المذكرة، فالعنوان كان كفيلا بأن يزجها في قفص الإتهام، دون أن نلقي نظرة عن 139 صفحة، التي ناقشت التسول كظاهرة اجتماعية، من خلال دراسة ميدانية، لكن وجع الاحتمالات العاطفية الذي ترتبت عليها طعنة الذل من شعب كان الظن فيه كل العطف، مؤلمة حد الموت.
يحق للجالية السورية أن تغضب، يجوز لها السب والشتم، ولها كل الصلاحية في قذفنا، فالتسول جرح غائر في جسدنا قبل جسدهم، ولا أدري عن أي تسول سندرس ونعالج، والشوارع الجزائرية تكاد تعج بالأفارقة، فلم يرعبنا سوريا واحدا عندما امتنعنا عن الصدقة، لم يمسكنا من يدنا وحاصر سياراتنا، كان لطيفا حتى في طلبه، راقيا في شرح وضعيته، متأدبا في نظرته، نحن من دفعناهم للتسول بعد أن ضاقت بيوتنا، بعد أن نسينا تاريخنا، ومزقنا أوراق حاجتنا ذات زمن، حين فتحت سوريا أرضها للأمير عبد القادر ومن جاء معه، حين رفضوا تسميتنا باللاجئين، حين زوجونا أبناءهم، وتصاهرنا معهم، حين أبقونا في البيوت معززين مكرمين، براتب من غير عمل.
نحن مدينون باعتذار لكل سوري مر من هنا، لكل طوق ياسمين صُنع هدية لنا، لكل قطعة قماش افتخرنا بصناعتها السورية، لفنجان القهوة، وكرم النسوة، لشعب ظل يحبنا حتى عندما رفضنا العالم في العشرية السوداء، اليوم وجب لنا أن نعتذر على تصرف فردي، أوجعهم، وفتح جراحهم المفتوحة عند كل دورية شرطة، عند رنة اللهجة، فور تقديم جواز السفر، نعتذر لهم عن التقصير، وعن النسيان، وعن الوجع، وعن الحروب، وعن كل فعل جعلهم في الزوايا يبكون، نحن الذين أصبحنا نستثمر في جراحهم، حتى نال علامات عالية.