قضية ورأي

التنكيل بالمُورِيسْكيِّين، وعواقبُه على سائر الجزيرة الأَيْبيريَّة

من منا لم يقرأ عن حضارة المسلمين في الأندلس، بل بالأحرى من منا لا يعرف ولو النزر اليسير عن تلك الحضارة الزاهرة، عن غرناطة العامرة، عن قرطبة العالمة، عن مدينة الزهراء، ومرسية وبلنسية وقصر الحمراء..

تعاقب على الجزيرة الإيبيرية بالتتابع القرطاجيون ثم الرومان وبعدهم القوط من القرن الرابع إلى القرن الثامن الميلادي، وأخيرا المسلمون منذ الفتح على يد المجاهد طارق بن زياد، تحت إشراف الفاتح العظيم موسى بن نصير في معركة وادي لكة وتعرف تاريخيا كذلك بمعركة بَرْباط أو شذونة سنة 711، إلى حين سقوط آخر معقل من معاقل المسلمين مملكةِ غرناطة سنة 1492..

لتعرف الأرض آنذاك أعظم حضارة خلدها التاريخ عبر الزمن، ما يناهز الثمانية قرون من الرقي والازدهار في شتى العلوم والمعارف، وإلى يوم الناس هذا ما تزال أشجار في بعض الأماكن من إسبانيا مثل البرتقال والليمون والتين والرمان والسفرجل وحتى القطن ونبتات أخرى تعرف بأشجار المسلمين، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على المستوى المتقدم الذي بلغته الأندلس في شتى المجالات كما سيتبين لنا بعدُ بإذن الله تعالى؛ بل يقول صاحب كتاب “تاريخ ثورة الموريسكيين” خوسي مونيوث إي غفيريا: “إذا كان الحرير المطروز يُدِرُّ ملايين كثيرة حاليا، فإن العقل المعترف به للإسبانيين يجب أن يعود للمسلمين، فنحن مدينون لهم بكل هذه الفوائد لأنهم كانوا المنشئين الأول، ولأن الشيء الذي لم يبدعوه وأحدث فيما بعد تَمَّ بالاقتداء بهم وبإلهام من الذكريات التي تركوها”.

بَيْد أن كل هذا الجميل تم تصعير الخد له، وانقلب العِرفان نكرانا، فمنذ أن سقطت مملكة غرناطة وإلى عهد الملك فليبي الثالث شهد حوالي قرن ونصف من الزمن مأساة لشعب بأكمله.

1. أنواع التنكيل بالموريسكيين

تعرض الموريسكيون لعدة أنواع من التنكيل منها: ممارسة التنصير والمَعمودِيَّة عليهم قصرا؛ وهي أَن يَغْمِسَ القسُّ الطّفلَ في ماء مقدس أو يرش على البالغ في حين يتلو بعضَ فِقَرٍ من الإنجيل، وهو آية التنصير عندهم.
فإن رضي بالتعميد فذاك وإلا نُكِّل به وطرد خارج بلاده، وكان الموريكسيون يضْطرون إلى بيع كل متاعهم بثمن بخس، ثم يتِمُّ نزع هذا الثمن منهم من طرف الجنود المشرفين على الطرد تحت طائلة السوط والشتائم، أو عن طريق حِيَل كأن يُرغِموهم أثناء الطريق على شراء الماء من الأنهار وظل الأشجار ليستظلوا تحتها! وغالبا ما كان يَتِم إبادتهم في الطريق عن بكرة أبيهم، ومن نجى منهم ووصل للشاطئ وصل خائر القوى، ليُتِّم القراصنة عليهم ما خلّفه الجنود.

بعد ذلك ثارت شرارة من داخل الكنيسة، وهي أن الموريسكيين يشكلون خطرا على النصارى القدماء، بحيث أنهم يؤمنون ظاهرا لا باطنا، ولتمييز المؤمنين حقا من غيرهم أنشئت محاكم التفتيش، وما أدراك ما محاكم التفتيش!!

وهذا يعكس مدى الحقد الذي كان يكنه الإسبان للمسلمين آنذاك، وعدم السماح لأي معتقد ديني أن يزاحم النصرانية الكاثوليكية، فيما تعايش النصارى واليهود تحت حكم المسلمين في أرقى صور المجتمع أكثر من ثمانية قرون في نفس البقعة.

ولتعرف مدى اللاتسامح الديني الذي عاشه المسلمون في تلك الفترة أسوق لك نموذجا من الظهائر التي كانت تصدر من المملكة والكنيسة “أمر الملك الأسياد بجعل نزع سلاح المسلمين مسؤوليتهم وطائلة مصادرة ثرواتهم، وأن لا يترك لهم أكثر من سكين بدون سِن.. وتحديد أجل ثلاثة أيام لإغلاق جميع المساجد وعدم السماح للمسلمين بممارسة أية شعيرة لدينهم لا في العلن ولا في السر.. وأن يُلزموا بحضور جميع الاحتفالات الدينية والاستماع للخطب الدينية في دوائر قساوستهم.. وكل مخالف لهذه البنود له عقوبة خاصة وغرامة والعبودية”.

2. أسباب التنكيل بالموريسكيين

في التاريخ لا يوجد سبب واحد، ولا يمكن إحصاء جميع الأسباب، وإنما هو مجهود فكري لاستقصاء بعض الأسباب المؤدية للحدث والنظر إليها من عدة زوايا مختلفة.

والمتتبع لـ تاريخ الأندلس يرى عدة أسباب لهذا التنكيل البشع.

أولا: ما زرعه المطرانات والقساوسة من كراهية في نفوس النصارى والسلطة بكون المسلمين مغتصبين لأراضيهم معتدين عليهم وليسوا بفاتحين؛ متغاضين عن كل المعارف والعلوم والحضارة التي أسداها المسلمون للجزيرة الإيبيرية.

ثانيها: الحقد والحسد على المال والنعمة التي كان فيها المسلمون، بل بلغ بهم الأمر أن يلوموهم حتى على خصالهم الجيدة وفضائلهم التي عملوا على نشرها وسط المسيحيين، وهذا تشهد به كتبهم قبل كتبنا، يقول ميغل دي سرفانطس وهو يصف الموريسكيين ويصورهم في صورة ساخرة “كان كل قصدهم هو سك النقود والاحتفاظ بالمسكوكات، ولأجل ذلك يشتغلون ولا يأكلون، إنهم يربحون دائما..

يجمعون الكل ويخبئون الكل ويبتلعون الكل، في كل يوم يربحون.. يتزوجون جميعا ويتكاثرون لأن العيش بقناعة يزيد من أسباب التناسل.. ليس لهم خدم لأنهم جميعا يخدمون أنفسهم، ولا ينفقون على أولادهم في التعليم لأن عملهم هو سلبنا”.

3. عواقب طرد الموريسكيين على سائر المملكة

جاء في مذكرات الكردينال ريشيليو قوله: “كان طرد الموريسكيين النصيحة الأكثر جرأة وقسوة التي يذكرها تاريخ كل القرون السالفة”، فقد أثر طردهم سلبا على كافة مستويات المجتمع، إذ كانوا يمثلون النخبة المثقفة المنتجة من تجار وفلاحيين وأرباب صنعة.

فعلى المستوى الصناعي عانت إسبانيا من غياب اليد العاملة، فلم يكن السكان الوافدون يحسنون إدارة مصانع الورق والحرير والنسيج مما اضطرها إلى غلق أبوابها، وكذا على المستوى الفلاحي بقيت زراعة السكر والقطن والحبوب وتربية دودة الحرير التي تفوق فيها الموريكسييون كثيرا مهجورة كليا في الحقول المخصبة.

ولم يرحم الزمان الإسبان على غلطتهم، فسرعان ما تبين لهم سوء صنيعهم وعظم جرمهم، فقد اكتسحت المجاعة ربوع الجزيرة سنة 1611، وأعلن النبلاء إفلاسهم واضطر الملك إلى تعيين منح غذائية لكثير منهم، وصارت أغنى المدن آنذاك مقفرة كغرناطة وبلنسية ومرسية ولم تقم لها قائمة تذكر، وفي المقابل ترك المسلمون في الأندلس حضارة عامرة وصروحا وكتبا ما تزال شاهدة على عظم العلم والعمارة والهندسة والرقي..

والخلاصة:

– أن الموريسكيين تعرضوا لأبشع أنواع التنكيل والعذاب، ولم تشفع لهم معارفهم ولا حضارتهم، بل عوقبوا بحرق كتبهم والطرد من مساكنهم.

– في المقابل نجد أن الإسلام مَرِن تعايش مع الديانات والأقليات تحت حقوق وواجبات عبر التاريخ.

جميع المقالات المنشورة تُمثل رأي كُتابها فقط، ولا تُعبر بالضرورة عن ام تي اي بوست.

أظهر المزيد

أنس شليوة

طالب في التعليم العتيق ومهتم بالتاريخ والثقافة عامة، مغربي من مدينة طنجة من مواليد 1993/11/23

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى