حين تمضي مُتأملاً في كل مكانٍ تخطو فيه، وتتفكر في أفعال الناس من حولك، تجد أن هنالك طاقةٌ خفية تتحدث عن نفسها، دافعٌ خفي يُحرِّك كلَ شخصٍ ويوجه كلَ فعلٍ سواء أدرك الناسُ ذلك أم لا.
هناك في أعماق النفس تقبع منظومةٌ محكمةٌ من المشاعر والسمات التي تُنتج أفعالنا، وكما نرى أفعال البشر تتفاوت فإن تلك السمات بالطبع تختلف بين الجميع، لكن جميعنا نشترك في أن لدينا غايةٌ خفيةٌ واحدة، نندفع تجاهها حتى وإن لم نُدرك ذلك..
كلنا يسعى إلى تحقيق ذاته، تختلف السُبُل وتتباين الوسائل لكن تظل الرغبةُ واحدة، الكل يُريد أن يشعر أنه ذا قيمة، يأمل في أن يكون محبوباً مرغوباً فيه، وفي الطريق إلى ذلك تتشكل ملامح الحياة.
فهناك يختبيء شخص في حجرته وحيداً بعيداً عن الأنظار لأنه يعتقد أنه بذلك يتجنب أن يرى أو يسمع ما يُخبره أنه ليس رائعاً، يخشى أن يستشعر من خلال الآخرين نقصاً يظنه فيه، وفي محل العمل على رأس ذلك الشارع يزأر ذاك المدير بصوته في هذا وذاك ويصنع بداخل موظفيه كتلةً لا بأس بها من الكره والغضب لأنه ببساطة يرى أن هذا هو المعنى الحقيقي للعظمة، وفي ذلك البيت هناك تجد زوجة تتذمر كل يومٍ ولا تكف عن خلق جوٍ من النزاع مع زوجها كل ليلة لأنها تفتقد للاطمئنان بأنها أهم امرأةٍ في العالم بالنسبة لصاحب هذا البيت.
وهنا، وهناك.. حكايا لا تنتهي من كل زمان ومكان كلها تحوي رسائل خفية قد لا يُدركها صاحبُ الرسالة نفسُه، وقليلٌ هم من يتلقونها بفهمٍ سديد.
إننا يا رفيق لا ننفك نحتاج إلى من يَقبلُنا بما نحن عليه، يمنحنا حباً غيرَ مشروط، فمهما أظهرنا من قوةٍ وجَلَد لسنا سوى بشراً نحيا بروحٍ لا تستقيمُ سوى بالحب ولا يسعدها مثل القبول، لكننا نتفاوت في كيفية التعبير عن ذلك الاحتياج وهذا طبيعي، فالبيئات مختلفة والظروف تتباين.
إن أسرار النفس البشرية يا صديقي تظهر بوضوحٍ شيئاً فشيئاً حين تستطيع أن تنزل إلى موضعِ أولِ نَفَسٍ للإنسان في هذه الدنيا، حين ترى -إن استطعت- كيف تربَّى وكم من الحب قد نال، ستعلم موضع الكسر حين تتوقف عن ممارسة دور القاضي والجلاد وتعتزل تفسير كل الأفعال وكأنها تدور من حولك، يتطلب الأمر منك أن ترى الأفعال وتسمع الكلمات بحواسٍ تتجاهل القشرة وتتخطاها نحو ما تخفيه.
وكأنّي الآن أراك تقف معترضاً تدافع عن وقتك وحقك، تسألني باستنكار؛ (لمَ علي فعل ذلك؟!) ثم كأني أسمعك بعدها تخبرني أنه لا حاجة لك بتلك العلاقات المرهقة، وهنا لن أعارضك بل سأتفق معك بشدة ولكن كما أنه لا حاجة لك بها فلا حق لك في أن تقيّم هذا وذاك، ولا أن تنصب المحاكمات لمن لا يستهويك، ولا تغفل عن أن أمرك بالنسبة لهم نفسه فالعلاقات مزدوجة الاتجاه يا رفيق.
أما من يهمك أمره فليس هناك بدٌ من حرصك عليه وحبك له واحتياجك لقربه، فإن أردتها سعادةً وراحة فلتقرأ قلب صاحبك من عينيه، ولتنصت لأناتِ قلبه من بين أنفاسه، ولتتعلم كيف تخبره أنت أيضاً عما يؤذيك وما تحتاجه حتى تيسر عليه مهمته تجاهك وتحمي قلبك من ردود أفعالٍ مرهقة ناتجة عن فهمٍ مغلوط لأفعالك، فإننا يا صديق في كل علاقة نلعب دورين؛ مُستقبِلٌ ومُرسِل، ولذلك نحتاج أن نتعلم كيف نقوم بالدورين لنصبح أسعد.
إن علاقاتنا نحن البشر ببعضنا تذكرني بما يسمونه “السهل الممتنع”.. فإنها رغم ما يعتريها من عقبات كل حين، إلا أنها تصبح سهلةً خفيفةً على النفس إن صدقنا مع أنفسنا فيما تمثله لنا كل علاقة، واستطعنا بجسارة التخلي عما يجب التخلي عنه، ثم تعلمنا كيف نحافظ على ما يجدر بنا حمايته.
عظيم التفتيش في أنفسنا دا ، رائع كعادتك دكتور