هناك الكثير من المشتغلين على الطب العقلي مِن الأوربيين مَن يعتقد ويتبنى فكرة “إنكار الشعور” كوجود قائم على تفاعلات الحالات النفسية، وهذا ما دفع هنري “الطبيب الأوربي” إلى القول: “الظاهرة النفسية اللا-شعورية لا توجد إلاَّ بالكف عن الوجود” (هنري، الشعور، ص: 379).
يؤسِّسُ فريد الشعور واللا-شعور على أساسات نفسية بحتة، وقد أكملت المدرسة الألمانية على الطريق نفسه عندما ذهب عُلماؤها إلى القول باستبعادِ التأثير الذي ينتج عن الخارج باتجاه الداخل مِن مُنطلق أنَّ الداخل البشري هو الأقوى، وهو الأكثر صلابة ومصدر كافة التموُّجات الفعلية، بحيث يرتبط الفعل الفيزيولوجي بصورة حتمية/آلية بما ينتج عن التأليف العميق لما يتلاطَم داخل الإنسان عينه.
وهذا ما دفع الفيلسوف الأوربي ديكارت إلى اعتبار العلم بالموضوع مطابق للموضوع عينه محل الخوض والدراسة علميا.
يعني أنَّ أوربا بقيت لوقت طويل تنكر الذات التي تنغمس في ما حولها عندما تكون بصدد الانجاز أو التفكير في طرائق لتحقيق الانجازات.
وقد أثبت الأمريكان بعدها وخاصة على أيدي خبراء التنمية البشرية بأنَّ العملية النفسية قد تنجلي وفق الداخل الخالص فقط.
وهذا ما أثبتته التصوُّرات المعاصرة، تلك التي مزجت بين العوالِم الروحية روحيا لتنتج خليطا بين المبادئ والأهداف، أسَّس للافتراض بشكل مباشر.
تعود العلاقة بين الداخل والخارج، وما بين التصرُّف والتفكير، أو كما يحلو للبعض منَّا تسميته بالظاهر من الجبل الفرويدي الغارق في بحر اللا-شعور، إلى ذلك الوصال بين الإنسان وما هو متعلِّقٌ به. أو الإنسان وما قد يتَّخذه مرجعا أساسيا لحياته، وعليه تنتج كلُّ اللواحق والتوافقات الخارجية، سواء توفَّرت لها الأسباب الطبيعية أو لم تتوفَّر.
قد ينكر الكثير مِن العلماء الأوربيين تلك العلاقة المبنية على النقيض ونقيضه، أين يسود منطق الأسود والأبيض.
لكن حسب رأيي قد دفعَت هذه الاعتقادات أوربا ومَن يعبدها بلا مراجعة، إلى السقوط في فخِّ التبعية لأميركا وقوَّتها الفكرية الرهيبة كسقوط الفريسة بين أذرع الأخطبوط الذي لا يرحَم.
الشعور واللاشعور
بعودتي في هذه المسألة تحديدا إلى التراث الإسلامي، وجدتُ بأنَّ الفصل فيها قد كان على أيدي المتصوِّفة حين نظروا إلى الكون بنظرة توافقية، وجعلوا مِن التفكير الأفقي بين العوالِم كافَّة، مُرجعين الحبَّ والقدسية لله سبحانه، أي إلى علاقة عمودية مفارقة خارجة عن نطاق الاستيعاب البشري أو الدنيوي بشكل عام.
شخصيا أميل إلى النظرة الأميركية التي تجعل البشر وحدات منفصلة لكنَّها تشترك في مجالات الإدراك، مختلفة في مدى عمق هضم المُدركات سواء كانت شعورية أو فيزيائية خارجة عن نطاقاتهم.
وبهذا أجد بأنَّ للمتصوِّفة المسلمِين في هذا الموضع السبق إلى الوصول لهذه التشخيصات، التي صارت مِن أهمِّ ما أنتجته العلوم الإنسانية لحدِّ الساعة.
أساس المادَّة الإنسانية هو الوجود مِن أجل التلاشي، فلا يبقى سوى وجه ربِّكَ ذو الجلال والإكرام.
هذا ما راح الأميركيون على اختلاف توجُّهاته يؤكدون عليه، لكنَّهُم اختلفوا عن المسلمين في أنَّهم جعلوا الهدف مِن وجود الإنسان الأميركي هو عيش “الحُلم الأميركي” وبالتالي تركيزهُم ينصبُّ على بناء صروح القوَّة مِن خلال تشبثهم بالحياة الفيزيائية.
في حين أنَّ المسلمين على اختلاف مسلَّماتِهم ومشاربهم قد هضموا هذه الحقائق بالوراثة، فراحوا يعملون على محاولة التوفيق بين ما هو شعوري داخلي تثمر نتائجه في ما بعد الحياة، وما هو حاضر يستطيع توفير السعادة للإنسان آنيا، ففي عشق الخالِق يسعد المخلوق.
لا يُمكن أن يكون الشعور دليلا في حالات الحياة المدنية..
لهذا لابد مِن توفير الأسباب الموضوعية قبل إصدار الأحكام على الأحداث والتقلُّبات المختلفة.
ومع ذلك يبقى هذا الشعور ذاته هو الذي يحرِّكُ الإنسان باتجاه البحث عن الأسباب الفيزيائية، بعيدا عن تصوُّرات المونادا الصينية العريقة.
2 تعليقات