هناك الكثير من المؤشرات الدالة على أن الإنسان المعاصر قد دخل بالفعل قائمة المواد الرمادية التي تجعل منه كائنا بلا قيمة، بل إنّ القيمة في حد ذاتها صارت بلا روح، وهذا بالذات ما يصعّب على الفرد فهم ما يحدق به من أخطار، فتراه ينتحر بكل فرح. مات الإنسان في عصر الحداثة، لكنه بعد ذلك قام من قبره واعتقد بأنه قد عاد إلى عالم الأحياء، ليبدو فيما بعد كميّت بثوب الحيّ، لهذا ليس غريبا اليوم أن نلمس تلك الأنفة الغريقة في صلب كافة الملهيات عن المصدر الأساس، ألا وهو: القيمة.
1. عمى الوجود في قتل الموجود
صار العالم بلا عمق، اختفت الطقوس والمراسيم من حياة الإنسان بشعارات كثيرة، صارت الأيام متشابهة، اختلفت العمولات وطريقة المعاملات بين الناس، تحول الكلام إلى مواد جامدة لا تعبر سوى عن دغدغة بسيطة للمشاعر وبشكل ظرفي من أجل الاسترزاق، لربما البعض منا يسميه نفاقا بالنفاق. بدون أية مقدمات لم يعد الفرد الإنساني مدركا لما يقع عليه من ضربات، فقد حواسه، أم أنها تجمدت بفعل فاعل، لم يعد الإنسان قادرا على اتباع قلبه وروحه، بل استبدلهما بكل ما يسعد الأجسام والمواد، لهذا من البديهيّ أن تجد الفرد غير مدرك لما يحيط به، بل تراه يهوي في الهاوية وهو يشعر أنه يتجه نحو سعادته.
2. عمى التقارب
ليس من الهيّن أن تعيد الإنسانية انتاج ما فاتها من مبادئ وثوابت، لكن الأمر يستحق المحاولة على أية حال، إن مراجعة الذات وفقا لقواعد جديدة تتجدد وفق آليات العرض والطلب يستدعي من الإنسان ذاته عملا واسع الآفاق ومتوازي الأخلاق، لا يهم من أين أتى الإنسان، لكن الاتجاه الذي يصبو نحوه هو هام للغاية، بحيث تتحوّل هذه العلاقات إلى نسيج جاد ومتين حين تُبنى على قواعد روحية متينة، إن ما ينسب إلى الروح يبقى روحيا تماما، وهذا ما يجعل الفرد الإنساني أكثر قربا من ذاته، حتى الذات ذاتها تفقد دورها الريادي حين تنفصل عن مفهوم التضحية من أجل المعنوي.
3. عمى آخر الحصون
لا أعتقد بأنّ الإنسان يبقى في الحد الأدنى بعيدا عن قيمه وكل ما يتعلق بروحه، هذا واضح عندما يتصل عمقه بحياته، وعندما ينفصلان يحدث الموت، الإنسان حيّ لأن جسمه يحمل روحه، فكيف يقصي كل ما هو روحيّ؟
الجلوس إلى مساكنة العمق البشري هو بمثابة سمر مفتوح أمام الزمن والظروف، لهذا من الغريب أن نجد الإنسان المعاصر بعيدا كل البعد عن روحه، مدّعيا أنه متصالح مع ذاته، لكنه في الأساس غير مدرك بالمرة لما هو موجود أصلا، هذا الانفصال بين الروح الذي يدير الجسم، ومتطلبات الجسم ذاته، يعبّر عن تراكيب غير ناضجة تعيد رصف كافة متطلبات الإنسانية في مقابل عجائب تسمو فيها رائحة الممات على كل رياحين العبق الروحي الغريق.
***
لم يكن هناك من مساحة لحفظ مسامات الحضور البشري على رقعة المنفى الأزلي للروح، لقد قهرت مجالات الإنسان العديدة غاية الفرد التي حملها منذ بداية الوجود، إنّ الإمكانات المحدودة والعيش الضنك للفرد المعاصر لم يجعله فقير الجيب فقط، وإنما حوله إلى قالب بلا روح، إلى حيوان بلا حيوانية. تتنوع الصور التي يوضع فيها الفرد الإنساني، لكنها تتحد في مجالات كثيرة، هي تتوحد على ساحة الحياة، حيث يمكن للإنسان أن يرفع قيمه إلى حدود التضحية من أجل التمسك بها، لكنه وبالمقابل قد فقد البوصلة التي تشير إليها، فلم تعد الروح ذا قيمة، ولم يعد الإنسان ذاته ذا قيمة، وإن لم تصدقوني: اسألوا نشرات الأخبار عن عدد الضحايا .. وستجيبكم هي لا ريب.