يختار القدر أين يرمي الإنسان، والإنسان مجبر على السقوط في المكان المعين. قد يلقى في وضع مادي لا يستطيع الهرب منه، مقيد الحرية، مرتبط بوجود الدائرة المغلقة التي لا ترحم ولا تترك له مجالا للتعبير عن مكنونات نفسه المشمئزة من نكهة الاختلاط التي تفسد نقاء الروح.
تعيش الخوف الدائم من المجهول، والهروب المستمر من اليد الممتدة التي تبحث عن حنجرة تحبس بها الأنفاس وتزهق الأرواح، وتسيطر على فضاء الفسحة والحرية. لتحوله إلى سجن دائري يجبر رواده على الدوران والتيه والطواف حتى السقوط والانهيار.
سجن يسمح لسجانيه بالقوة وبالعجرفة والتجبر، وتعدي كل خط فيه نسمة الرحمة ونفحة الشفقة. لهم التميز على تعليق مفاتيح الأبواب على بدلاتهم العسكرية، وتغيير أصواتهم إلى أصوات يصدع لها كل فؤاد رحيم رهيف الحس.
ومن الشدة والقوة ترفع الأرواح المسكينة إلى الأعالي، وتترك الرفات هامدة متجمدة نخرة. ثم تعتلي الابتسامات الصفراء شفاه السجانين، نشوة بالتسيد والسيادة على كومة المخلفات ورميم الجثث.
هيا اجمعوا كل هذه الخيرات، قد حان وقت الطحن والعجن..
تنقل المحاصيل، لتطحن وتعجن ويصنع منها أشكالا تعلق في ما بعد على أبواب الزنازن، لتطبع على مر الأيام في الأذهان المارقة وفي أفئدة الأرواح الثائرة. وتشكل القيد المحتوم لكل حرية همت برشفة من كأس يملأها إكسير للحياة.
تحول السجن في برهة زمنية إلى ساحة اختلط فيها السكون والحركة، وتسمرت النظرات على عجائن المنحوتات المتدلية على الجدران، وتناثرت علامات الاستفهام فوق الرؤوس، وتشابكت الأصوات الفالتة من أفواه دمرها إيمانها بالكلمة، وتشكلت الحروف مثل ركام هش تقذف به الرياح صوب الاتجاه المعاكس.
اهتز المكان المقدس على صوت البوق الملتوي كقرن خروف اسودت أسنانه وسقطت من خرف السنين. وقفت الأجساد وجحظت العيون، وساد الصمت الرهيب، وعم الارتقاب.
تعليمات جديدة بدأت تنساب من فوهة البوق:
- قانون حضر العقل ومنع التفكير.
- استعمال العقل عقوبته المسح والغسل بشكل نهائي.
- الاعتراض على القانون مرفوض عقوبته الحرق والعجن.
تعليمات ملتها آذان السامعين، ونقشت آثارها على صفحات الأذهان. وسارت مهضومة، خلفت وراءها نقاش الكائن والممكن، نقاش البداية والنهاية. ونقاش التحدي. كلمات ذنبها أعظم، وسريتها ترفع شعار الموت من جديد.
تسرسب الزمن، وانتفخت صدور المسجونين، وبدأ دخان المغامرة يتناثر في أجواء الزنازن، واشتدت الهمسات، ووضعت الخطط لفجر جديد.
قصة فلسفية جميلة تستحق القراءة، شكرا للمدون،
احسنت