منذ سنوات دراستي على مقاعد “الجامعة” الجزائرية، منذ ذلك الحين لا يزال في خلدي سؤال لا يبرحني حتى يعود إلى ذهني، سؤال طرحه عليّ أحد الجهلة الكثر بين أروقة “الجامعة” الجزائرية بخصوص الفلسفة، إذ قال لي:
لمـا اخترتَ أن تدرس “الفلسفة”، هذا العلم القديم؟
وكأنّ الجزائري يقود قاطرة التقدّم في العالَم الحر!
ما علينا؛ وبعد سنين على هذه الحادثة، عاد هذا السؤال ليواجه عقلي، خاصة هذه الأيّام، عندما كنت أقرأ كتاب “الفلسفة والحضارة” لمؤلِّفه: جون ديوي.
يقول الفيلسوف الأميركي: “أولئك الذين يقررون في تعريفهم للفلسفة تعريفا مجرّدا، أنها تبحث في الحق الأبدي أو الحقيقة الأزلية دون ملابسة من الزمان والمكان الموضوعيْن، مضطرون إلى التسليم بأنّ الفلسفة من حيث أنّ لها كيانا محسوسا فهي تاريخية تجري مع الزمان وتستقرّ في أماكن عدّة من المواضيع” (جون ديوي، الفلسفة والحضارة، ص: 222).
الفلسفة ليست علما ولا هي أُمّا للعلوم كما يحلو للبعض تسميتها، بل هي نَسَق من الأفكار التي تعبّر عن حالات ومقامات بعينها ضمن أطر زمانية وإجراءات خاصة تنتج عن ظواهر مختلفة، هذا يجعلها عابرة للمواضيع وشاملة لكافة التخصصات على اختلافها.
ففي أزمان مضت لربما فترة العصور الوسطى الأوربية أبرز الأمثلة على تدخّل الفلسفة في الدين ومجاراتها له.
بعدها في عصر النهضة قامت الفلسفة بمزاحمة العلوم والتفوّق عليها في الكثير من المجالات، بينما في عصرنا المعاصر تحاور الفلسفة الحياة والروح في آن واحد، جاعلة من الإنسان موضوعها الرئيسي والأهم، فإن كان الإنسان قديما، فالفلسفة بطريقة طردية تصبح قديمة!
يقول الفيلسوف الأميركي أيضا: “الفلسفة اليوم بوجه عام، وفلسفة كلّ فيلسوف بوجه خاص متحرّرة من أثر ذلك التركيب المعقّد من النظم التي تكوّن الثقافة؛ فقد ظنّ بحماسة كلّ مِن بيكون ديكارت وكانط أنّه كان يقيم دعائم الفلسفة من جديد ما دام يرسي قواعدها مطمئنة على أساس فكري خالص.” (جون ديوي، المصدر السابق، ص: 222).
هنا يؤكّد ديوي على أنّ الفلسفة عبر عدم اكتفائها بكافة المجرّدات واتخاذها لكافة المواضيع اهتمامات تخصها هي أيضا، جعلها تتأقلم مع كافة التحوّلات ضمن حياة الإنسان في كافة الأزمان.
فعندما اهتمّ الإنسان بالأسطورة، قامت الفلسفة بتعرية هذه القصص الأسطورية عبر أعمال العقل فيها، وعندما اتجه الإنسان إلى تأسيس فنّ الحياة، عمدت الفلسفة إلى مساعدة الفرد على تلمّس طريقه الخاص بين أيّامه وبواسطة أدواته وقدراته الخاصة به وحده.
وعندما بلغ الفرد الإنساني قمّة توحشه المادّي، راحت الفلسفة تذكّره بجانبه الروحي.
- ابن المقفع .. «المثقف العلماني» الذي اغتال العباسيون عبقريته
- هل التفاوت الاقتصادي مشكلة حقا؟
- سيد قطب وقراءة في كتابه “معالم في الطريق”.. الطريق إلى حبل المشنقة
- حِبَالُ العادات الإنسانية.. قراءة في كتاب العادات السبع للناس الأكثر فعالية
- الزهايمر بداية الموت الصامت
إذن لقد حاولت الفلسفة منذ الزمن القديم وحتى عصرنا المعاصر أن تتجدّد على حسب متطلّبات الإنسان، وقد نجحت في ذلك.
لعلّ أبرز البراهين على هذا، هو حضورها إلى اليوم في ظل انقراض الكثير من أنماط التفكير القديمة، وسرّ هذا النجاح هو اعتمادها على تثبيت الفرد الإنساني في حالة التوازن التي هو في حاجة إليها لأجل الاستمرار في حياته، فالفلسفة تحمي الإنسان من الغلو في الأفكار عبر دفعه إلى طرح التساؤلات والأسئلة المتنوعة من جهة، ومن الانغماس المادي من جهة أخرى، عندما تذكّره بأنّه يحمل جانبا نفسيا متعطشا عليه أن يرويه بأفكار خاصة مستمدة إمّا من الديانات أو الثقافات المختلفة.
الفلسفة بهذا المعنى هي الملجأ المؤقت للإنسان عندما يبحث عن إجابات ومسكّنات لآلامه الروحية، وحتى وإن بدت كلمة “فلسفة” (Philosophy)، قديمة التداول، إلاّ أنّها حاضرة حتى في حيوات من يدّعون معارضتها ويحاولون التهجّم عليها، حاضرة في الفن من حولهم، في الموسيقى التي يسمعونها، في طريقة اختيار ملابسهم وحتى في الطريقة التي يتعاملون بها مع الآخرين، إذ يمكنني أن أجيبك يا جاهل بأنّ الفلسفة مثل الموت، تلاقيك عندما تفرّ منها.
4 تعليقات