الإنسان! تاه وانقضى بين كافة المتاهات والزوايـا، لم يرضَ بما أرسل له من السماء فتجبر، ولم يقنع بما وجده على الأرض فاغتر، ولم تسعه أحلامه فاتجه ناحية الخيال، ولم يرتح في مخيلته بالقدر الكافي لتجده يركض في معظم الاتجاهات، ثم يعمد للقفز في الهواء رضا بالمكتوب وتمردا على الحظ.
في نهاية الـمطاف ستحمِل صخرتك وحيدا، فوق ظهرك أو صدرك لا فرق، فذاك غير مهم، تنتقل بها من مكانك إلى مكانتك بصيغة المفرد، ولا تتحمل الإعراب، ثم تعيد نفس المقطوعة التي عزفها البخيل ليلة اكتمال القمر من جديد، ليس احتفاء ولا رثاء وإنما غناء.
ستتحمل القسوة مرغما، تهوى البطولة لطفا وعزة، تعتني بنفسك استحسانا وتذوقا، ثم ترتمي في أحضان المآسي هروبا من لوعة أصبتَ بها في الصميم، لهذا من الصعب إدراك ما أنتَ بداخله وتخوض فيه، من المأساة يولد كل شيء، منها الترح والفرح والابتهاج والغثيان والهذيان والإنسان.
في قاموس الزمن: ليس مهمًا من تكون، وما الذي تريده أن يكون عليه مصيرك، وإنما المهم ما هو قابع بجوفك من تفاعلات قد تقضي عمرك تفسرها وتفكك تعقيداتها بلا جدوى، إنّ العلاقات التي تتم وفق القانون ستكون بلا عقل، يابسة كالسوط، لكن العلاقات التي تبنى بحبال التعقل ستصبح أبهى من لوازم الغرق الوجودي الملتهب أمام أعين الضياع، لا يمكنك فهم ما يستقيه الغريب من غربته، لن يفهم أيا كان ما يجول في الأذهان، عندما تنصب المآسي في حناجر المعابد الزكية والغريبة..
لطالما آمن الإنسان بذاته، ولطالما خذلته تلك الذات تحت ضربات الوقائع، لكن الجليل في كل ما يحيط بنا كبشر، هو أننا نملك حقا مقدسا: حق الاختيار التفاعلي.
النبيل سيدله قلبه حتما على كل ما هو مقبول، حتى ولو كان مهبولا، إلا أنه سيشعر بتلك النشوة المتأخرة التي تفوح هدوء وألغازا، إنّ طرق الإنسانية كثيرة، لكنها تبقى الأهم بين صفحات التاريخ، لا بديل عنها عندما يتعلق الأمر بالإنسان ككيان، لا مجال للتفاوض على إنسانية الإنسان، حتى الأديان والديانات ستجلس حائرة أمام وجه وملامح الإنسان، تضاريسه الخاصة تطفي على الروح جمالا قدسيا رهيبـــا..
فلا تكن مغرورا يا أيها الشقيّ التقيّ عندما تواجه الوجه البشري، لأنك ستواجه جانبا إنسانيا ذا معاني عميقة جدا، هيبتها بوزن الجبال، من موطاس إلى عرفات.
يلهوا الفرد الإنساني بإنجازاته المتعددة، فيرى منها السماحة أيام الأسحار، فيناجي القمر مكتملا: يا أيها البدر رفقا بالمتعبين؛ رفقا بمن ظلموا بسبب مقدمات لم يشاركوا في إنشائها، ولم يولدوا لأجلها، ولا علاقة تجمعهم بها سوى أنهم ولدوا في الظرف الخطأ يوم اليتم الأكبر.
من الرائع أن تحكم بين مسارات البشر كقدر لم يبلغ أقصاه، ولم يعرف منتهاه، ولم يتمكن من السير على جسور ما يجعله قادرا على افتكاك مكانة بين الصقور، لكن الغريب في النبل أنه ينفر من النبلاء، من الإنسان المخلص الطاهر بلغة الأرقام والصفات، إنّ العالم يتحرك ببطء نحو الرفاه، لكنه يتحرك بتسارع منقطع النظير نحو ناره الأبدية التي لن تبقِ منه حتى الرماد.
لن تكسب شيئا وأنت تحاول غربلة الماء، ومن يفعل ذلك فإنه يهوى البقاء فريسة لعنكبوت الملاهي الذي يسكن السجون، وأوحش المشاعر على الإطلاق، هي تلك التي يسكنها الضباب وينبت ضمن فضائها عفن الأسرار بثياب الأفكار، إنّ للغز المسارات المتعددة التي تجتمع في حصن الإنسان منابت تعزل سراب البنيان عن مكامن البرهان، لا يمكن للضمير القضاء على أسوار الوجود بلا معول، لكنه يقفز دائما بلا إذن ولا شبهات.