اجتاح الحر المستبد والمنبعث مما استجمعه قصدير سقف الغرفة من أشعة شمس طوال اليوم، ففتحت عائشة الباب ابتغاء نسمات عليلة تطل عليها بين الفينة والأخرى واضعة أمامه صندوقا بلاستيكيا ليحول بين الولد الصغير الذي يعثو في الغرفة لعبا ونشاطا وبين حرية سطح العمارة.
لم ينل التعب من أيوب في أول أيام عمله وهو لم يبلغ الرابعة من عمره بعد!! فظل يقفز فوق الفراش مرددا لجملة ‘صدقة على الله’ التي تعلم نطقها اليوم بطريقته البريئة، ومطبقا في نفس الوقت بأنامله على البرتقالة التي منحته إياها سيدة من نافذة سيارتها عند موقف إشارات المرور.
كانت عائشة في هذه اللحظة جالسة على الصندوق معرضة بظرها للغرفة تعد ما تيسر من عملات صفراء وفضية تتخللها بين الفينة والأخرى قطع من اللونين. لقد أخذ منها الأمر وقتا أطول من المعتاد فقد حضر أيوب برزقه الوفير منذ أول أيامه..
“.. دخلت عائشة إلى الغرفة أخيرا وأعادت الصندوق إلى مكانه بعد أن سمعت حركات الفئران المتسللة والجائعة التي استقطبتها أكياس الخبز اليابس المكومة في أحد زوايا سطح العمارة، والمجسدة لأحد أشهر الاستثمارات الشعبية لبعض من سكان العمارة.
كان أول شيء استحوذ على مجال رؤيتها وهي تغلق باب الغرفة هي الوضعية التي نام عليها أيوب وهو لا يزال ممسكا بالبرتقالة، وطبقة الوسخ السوداء التي غطت أسفل قدميه!!! انتشلت البرتقالة من بين أنامله المستسلمة ثم عاينت أسفل قدميه الذي غشاه السواد، ففكرت في تركه نائما حتى حلول الصباح.
لقد اعتراها شعور غريب هز كيانها وهي تضع أيوب في فراشه من دون عشاء، فهمت بكبحه بسرعة وبقطف أول براعمه المتمردة حتى لا تخوض في متاهة الأمومة الفطرية التي جعلت من كل امرأة منبعا للحنان والعطف:
– لقد اكتريت هذا الصبي للتسول فحسب!!
هكذا حاولت إقناع نفسها بعد لحظة الضعف تلك وهي تنسحب فاسحة المجال لأحلام هذا الملاك الجائع والمتسخ..
“… تنحدر عائشة من عائلة غفيرة الأفراد عاشت الحياة تحت سقف العوز وعلى أفرشة الحاجة. تسع إخوة وأب تَوَّجَهُ الشلل على عرش كرسي الإعاقة كتمثال فيلسوف متأمل تدب فيه الحياة بين الفينة والأخرى، حيث يقضي جل يومه في سماع برامج الراديو وفي التحسر على ضعف الحيلة..
اضطرت تحت وطأة هذه الظروف إلى الخروج منذ طفولتها للتسول مع والدتها مغتالة كرامتها عبر مراحل ذبلت خلالها زهرة طفولتها، وتشوكت عبرها زهرة شبابها ليتطابق الجوهر والمظهر، وليصبح الشاذ عاديا.
استيقظت في صباح اليوم الموالي متحسسة ثقلا فوق صدرها!! ولما ارتد إليها وعيها تاركة قوارب السواد والغيبوبة، وأخلصت حواسها في عكس مكونات العالم الخارجي بكل أمانة على مرآة اللحظة الراهنة، وجدت أيوبا مستلقيا فوقها!! تجمدت في مكانها من هذا الموقف فلم تجرأ على الحركة! ثم اعترتها بعد ذلك رغبة في مداعبة شعر هذا الصغير البريء الذي ذكرها بشقيقها الأصغر رشيد رحمه الله..
بعد هذا الفاصل القصير من اللحظات النوستالجية والعاطفية، نهضت بحزم محاولة عدم استدعاء شبح الحزن الذي استأنست برفقته لسنوات بعد وفاة أخيها بسبب مرض السل! نهضت كجندي متأهب نافضة غبار الضعف الذي دغدغ جانبا من إنسانيتها ومدركة أن الخروج عبر باب هذه الغرفة الحقيرة لمواجهة الحقيقة والواقع يستوجب عليها نسيان رومانسية الأم المثالية، ويطالبها بتكشير الأنياب وبإبراز المخالب.
“.. اشتعل الضوء الأحمر في ملتقى الطرق المشهور في مركز المدينة معلنا عن اصطفاف السيارات وراء بعضها في منظر معتاد يجسد جبروت القانون الإنساني. في هذه اللحظة، تمتم أيوب بكلمات بعد أن استوعب اللعبة مدركا أن الجولات القصيرة والسريعة بين هذه القوافل من السيارات مرهون باشتعال الضوء الأحمر، لتشرع عائشة في جولتها حاملة أيوبا وراء ظهرها، وطارقة زجاج النوافذ التي تقف كحاجز بينها وبين كرم أو قساوة أحد هؤلاء الغرباء، وليبدأ تداول مقاطع الحوارات المعتادة والتلقائية:
كانت عائشة -وكغيرها من المتسولين- تركز على الأجوبة المتعاطفة أو على تعابير الوجوه المتأثرة، والأنامل التي تبحث في الجيوب أو في درج السيارة عن بعض القطع النقدية، ضاربة بعرض الحائط كل أساليب الرفض أو التهكم، ومتناسية كل كلمة تعمق جرح مذلة السؤال، أو تجاهل قاتل وبئس المآل!!! لقد أكسبتها العادة وتعاقب الأيام على هذا الحال مناعة مكنتها من قطع حبل الكرامة عن دلو الإنسان، لينسجم سواد هذا الأخير مع الظلمة الحالكة لبئر النسيان.
كانت هذه الحاجّة في قمة الفضول، حيث بدأت تسأل حول الطفل أسئلة محرجة على مسامع بقية ركاب السيارة، في حين كان أحد الراكبين في الخلف منهمكا في أخذ صور لأيوب بهاتفه، الأمر الذي أفزع عائشة وأجبرها على التراجع للخلف وإلى الانصراف…”