كنت اشتريتُ من معرض بايغُّوكول خمس بالونات: حمراء، زرقاء، صفراء، خضراء، بيضاء. انفجرت البالونة الحمراء بعد تماسها بشوكة شعر رأس أختي بانو. وكان خيطُ البالونة الزرقاء جدُّ طويلة، فمضت تطير وتطير حتى علقت بسعف النخيل.
أما البالونة الصفراء فقد ظَلَلْت أداعبها حتى فجرتها بنفسي في إحدى اللحظات.
ضيعت البالونة البيضاء في غمرة العدْو دون أن أدري أين.
عدتُ إلى المنْزل مساءً ضاماً في صدري البالونة الخضراء. كان مساء ذلك اليوم لذيذاً معسولاً. وكان يطفو على أرجاء المكانِ عبقُ طبخ عصير النخيل. كان الصاعود قد أتى منذ الصباح الباكر، فأنزل العصير من أشجار النخيل. سيتم إعداد الفطائر. فاحتفظت أمي بثلاث كيزان. منذ الصباح تجري مهام طبخ العصير. طارت في الهواء نكهته العبقة. وحدث أنّ من مصّ الهواء في السماء، أحسّ بالعذوبة.
هل كان هذا في شهر باوش؟ ينزل الضباب مثل زهور الصفصاف. كان العصير يغلى في موقد ساحة الدار. تُعد الفطائر أمي، وأختي بانو، وأم نورو. في صدري حداد للبالونة التي انفجرت، والتنهد الممدود للتي ضاعت. ورغم هذا كله لا مفر من القراءة. قراءة في كتاب بنغالي، وفي كتاب إنجليزي. في الخارج قمر مخملي، وفي الرحاب والأرجاء حلاوة العصير، وفي الصدر أنين التحسر اليائس.
أشعر بشغف الذهاب إلى جوار ذلك الموقد الدافئ، حيث تصبح لقمة من عجينة دقيق الأرز متجلية بالبهاء والجمال بلمسة أنامل أختي. حيث يعذُب لحم جوز الهند المبشور بمسحة من أمي. وما أروع القمر! أغلقت الكتاب ورتبت الدفاتر، ثم جئت برفق وهدوء لأجلس متلاصقا مع أجساد فنانات الفطائر.
ولكم أشعر بالسعادة بجوار الموقد في ضباب شهر باوش! تقع عيني على المنظر الداخلي له. كانت الأرجاء والرحاب مملوءة بحلاوة المذاق، رائحة العصير، شذى جوز الهند، والأريج القاتم للحليب الكثيف. أما في جوف الموقد فيشتعل الجمال، فهل تفتح داخله مائة ألف زهرة؟ ومضت تحمر حديقة البونسيانا؟ __ لا، بل تشتعل في جوفه متوهجةً أخشاب المانجو العاطرة؛ وقِطَعِها “تتعثكل” كأنها قطع الماس النفيسة القيمة. هذا الكم الهائل من الجمال، والقدر الكبير من البهاء لم أرهُ مجتمعًا هكذا معاً في حياتي قط. كيف يسعني تذوق ذلك الجمال البرّاق الملتهب؟ لا يمكن لمسه، ولا تطويقه، ولا مصّه باللسان. فغدوت أمصّ في نفسي، ألمس قطع الماس تلك، من المساء إلى المساء العميق.
يهبط الضباب حينه كثيفاً، عميقاً، لونه كالحرير. ينبسط الضوء من خلاله كالنسيج القطني الأبيض. في روضة الباذنجان قمر جامد على قطعة من السواد الأخضر، وظلال البيوت ترتجف في أضواء حالمة. على مبعدة يسيرة تقف نخلة، في عنقها كوز. أردت أن أنزل ذلك الكوز وآتي به، وأشرب بملئ كأسي عصير النخيل المسائي اللذيذ. كانت أمي، في تلك اللحظة، تحكي قصة أمها كيف كانت تصنع فطيرة “موكشايلا”.
وقفتُ وبتُّ أسير نحو شجرة النخيل، كنت في ضوء القمر، بل كل شيء في ضوء القمر: الأرض، والناس، والفطائر، والعصير وحتى الأساطير. وما إن اقتربت من جذع النخلة، وإلاّ ورأيت بالونتي البيضاء الضائعة عالقة بسعفها الهزيل: القمر، كالبالونة، عالقة برأسها.
والقمر قد خُيِّل إلىَّ وكأنه بالونتي الخفيفة الرقيقة البيضاء، وخيطها عالق بسعف النخيل. في علوّ يسير يطير هذا القمر متأرجحاً من جهة إلى أخرى. تلك هي بالونتي الضائعة التي كنت قد ضيعتها في لحظة من الذهول قبيل المساء. البالونة التي ملأت قلبي بالحزن والحِداد، علقت، هي نفسها، بسعف النخيل وغدت تطير وتطير وتطير.
يتساقطُ من جسمه نور مثل ساري أمي الأبيض، ومثل ابتسامة شفتي أختي بانو، إلى اليوم عندما يطلع القمر في السماء، القمر المستدير، أتحول إلى طفل وأرنو إليه، أرى أن بالونتي تطير في سماء المدينة، في سماء البنغال، في سماء وسماء الدنيا المظلمة التي انطفأت فيها كافة المصابيح والأنوار.
وما أكثر أنواع الأقمار التي كانت تطلع في قرية “باريخال” في صبايّ. في سماء مبللة بالغيوم كان يطلع القمر كالفطيرة المندَّاة بعصير النخيل. وأحيانًا كان يطلع قمر يشابه فطيرة “تشيتوئي”، وقمر مثل زهرة، ثم قمر مثل العين، وآخر مثل الوجه. وإلي اليوم أظلّ أبحثُ عن كلّ تلك الأقمار الجميلة.