بعيدا عن نظرية المؤامرة التي تُستدعى في كل وقت وحين، لتفسير متغيرات العالمين العربي والإسلامي مند عقود، يُثبت الاستفتاءان في كردستان العراق وكتالونيا في إسبانيا أن ما يجري هو ثورة الأقليات، نتيجة ضغط العولمة على نموذج الدولة الوطنية، من دون قدرتها على تقديم بديل آخر لهذا النموذج غير الانفصال.
قد تكون المصادفة الزمنية حاضرة في استفتاءين متباعدين جغرافيا؛ فالأول في الشرق حيث اعتاد أهل الدار على التفتيت والتقسيم، والثاني في الغرب ضد كل شعارات الاتحاد والتكتل. لكن المؤكد هو وحدة المقصد، ممثلا في السعي إلى تأسيس دولة مستقلة، بعيدا عن سلطة الدولة المركزية، على الرغم مما يحظى به الإقليمان من وضعية خاصة في دستور البلدين؛ الفيدرالية في العراق والحكم الذاتي في إسبانيا.
تاريخيا لم يتوقف مسلسل الاستفتاء منذ أول تطبيقات بداية القرن التاسع عشر، وقد مكَّن الأمم المتحدة، في تسعينيات القرن الماضي، من تصفية القسم الأكبر من تركة الاتحاد السوفياتي، ووَأد نزاعات متفرقة في مناطق عديدة في العالم (إريتريا، تيمور الشرقية، كوسوفو…)، إلى درجة باتت معها أطروحة التكتل والاندماج محط شك وريبة؛ فحديث الخرائط يكشف أن العالم يسير باتجاه التفكك، لا الوحدة.
تتعاظم الدول التي تواجه موجات الانفصال في العالم، فثورة الأقليات قادمة لا محالة؛ ربما يكون الأكراد والكتلان باكورة ثمارها اليانعة، ما لم تعمل الدول على إيجاد صيغ توافقية للحيلولة دون الانفصال، بالتعاون طبعا مع باقي القوى الإقليمية؛ كالاتحاد الأوروبي بالنسبة لإسبانيا، وأساسا تركيا وإيران في الحالة العراقية.
وجدت أغلب البلدان، في الشرق كما في الغرب، نفسها معنيةً بدرجات متفاوتة بما يجري، لأن النَّزعات الانفصالية ليست وليدة اللحظة الراهنة، فالتاريخ يكشف تجذر مطالب الحركات القومية والإثنية في معظم البلدان الغربية، قبل أن تدعمها اليوم عوامل اقتصادية، وضغوط اجتماعية جراء الأزمات المتوالية. ففي إسبانيا مثلا، نجد كذلك إقليم الباسك الراغب في الانفصال في الثلاث سنوات المقبلة، كما تنتعش رياح القومية في إقليم غاليسيا.
وتشهد جارتها الشمالية، فرنسا المعروفة بنظامها اليعقوبي في الدولة، دعواتٍ إلى الانفصال تقودها الحركة القومية في كورسيكا التي ضُمت حديثا إلى الجمهورية.
غير بعيد؛ وتحديدا في إيطاليا، تنتشر دعوات في شمال البلاد إلى إقامة دولة جديدة تحت اسم “بادانيا” منذ 1989، وفي الجنوب حيث لم يتردّد سكان جزيرة صقلية في الإعلان عن رغبتهم في الاستقلال عن الحكومة المركزية في روما. مركز الاتحاد الأوروبي بدروه لم يسلم من حمى الانفصال، حيث يرغب الشمال الناطق بالفلامانية في الانفصال عن الشق الفرانكفوني.
للقارة الأميركية نصيبها من الموجة، فمشاعر القومية تجتاح إقليم الكيبيك الراغب في تجاوز نكبة استفتاءي 1980 و1995، اللذين كانت نتيجتهما لصالح الوحدويين. وبلغ صدى الانفصال الولايات المتحدة الأميركية التي تبدو متماسكة سياسيا، فإلى جانب ولاية كاليفورنيا التي شرعت عمليا في جمع التوقيعات اللازمة لإجراء استفتاء لإقامة جمهوريتها في أفق 2019، نجد المطالب نفسها تتكرر في كل من ولايات هاواي وألاسكا وتكساس؛ وتعد الأخيرة الأكثر راديكالية في شأن الانفصال، حيث توجد فيها حركات قومية قوية.
جنوب القارة، نجد حركة “الجنوب الحر” التي تأسست عام 1992 في البرازيل، وتضم ثلاث ولايات؛ سانتا كاتارينا وبارانا وريو غراندي دو سول، بساكنة تقدر بحوالي 29 مليون نسمة، وأعلى نسبة لنصيب الفرد من الدخل في البلاد، قد أطلقت مشاوراتٍ بشأن تنظيم استفتاء للانفصال عن البرازيل في العام المقبل.
باستقراء حيثيات النزعات الانفصالية التي يعيش العالم على إيقاعها في جهاته الأربع، نجدها تتراوح بين عوامل اقتصادية أو ثقافية أو تاريخية، وأحيانا تتداخل هذه مع تلك، لتغدي النزعة الثورية والحس الانفصالي في هذه المنطقة أو ذاك الإقليم.
نجد المعطى الاقتصادي في مقدمة المبرّرات التي تُساق لتفسير دواعي هذه الموجة الجديدة، فمناطق عديدة تجد نفسها مغبونة عند توزيع الثروات من الدولة المركزية. قول تعزّزه معطيات الواقع التي تكشف أن أغلب الحركات الانفصالية في العالم (الأكراد، الكتلان، بادانيا، كاليفورنيا، البرازيل…) ظهرت في المناطق الأكثر ازدهارا في بلدانها، ما يقلص من فرص التعاون المفترضة؛ أو التضامن باللغة الدستورية، بين المركز وهذه الأقاليم.
ففي السياق الإسباني مثلا، يساهم إقليم كتالونيا في ميزانية الحكومة المركزية بنحو 23 مليار دولار؛ أي ما يزيد عن 8% من إجمالي الناتج القومي للإقليم. وفي الشمال الإيطالي، وصل الأمر إلى حد مطالبة سكان الإقليم بشراء حريتهم من “الهيمنة الخارجية الإيطالية”، مقابل 15 مليار يورو؛ وهو نصيبهم من ديون إيطاليا التي تربو على تريليوني يورو.
تتعزّز معظم بؤر الانفصال المتوقدة بعوامل ثقافية، وأخرى تاريخية، تقطع مع أي إمكانية للمصالحة بين السلطة المركزية وهذه المناطق. فالكتلانيون، على سبيل المثال، مدعومون بعمق تاريخي، ووعي جمعي بهوية “أمة كتلانية”، لم تعد تجد فرصتها في المملكة الإسبانية، التي انضمت إليها بالقوة.
تاريخيا لم تكن كتالونيا جزءا من المملكة إلا في عام 1479، وضع فرض على السلطة المركزية في مدريد، على إثر تأسيس الجمهورية الإسبانية الثانية (1931)، منح المنطقة نظام الحكم الذاتي مع إقليمين آخرين، قبل أن تدار البلاد بقبضة من حديد مع الجنرال فرانكو. ثم ما لبثت دعوات الانفصال تتجدّد بعد نهاية الحرب الأهلية، ويشكل أنصارها الغالبية، وهم ضد أن يقال عنهم إنهم “إسبان”.
كانت العوامل نفسها سببا لأزمة استمرت طويلا في بلجيكا؛ بسبب الصراع المتجدّد بين مكونيها العرقيين واللغويين. وقد لا يترتب على هذا الصراع مجرد تعطيل سياسي للحكومة الذي استمر أزيد من سنة، بل فرض الأمر الواقع وتقسيم البلاد مستقبلا. وللتذكير، انفصلت بلجيكا ذاتها عن هولندا، بسبب الاختلاف الديني (بلجيكا ذات غالبية كاثوليكية وهولندا بروتستانتية).
لا شك أن العودة القوية لمطالب الانفصال في العالم الراهن تُعزى، بالدرجة الأولى، إلى الوضع الاقتصادي الضاغط بسبب العولمة، إذ لم تعد المسألة الديمقراطية التي تقدّم، في معرض تبرير أي انفصال في العالم الثالث، شرطا كافيا، فهي موجودة في أوروبا وأميركا، ولم تحل المشكلة. وعليه يتحول المعطى الاقتصادي إلى تحد جديد، ينضاف إلى باقي التحديات السياسية والاجتماعية والثقافية (الهوياتية) والأمنية.. التي تهدّد فكرة الدولة الوطنية؛ بفعل تطورات العولمة الجارفة، في مختلف تجاربها، مركزية كانت أو فدرالية.
كاتب التدوينة: محمد طيفوري