“إنا حملنا الحزن أعواما
وما طلع الصباح
والحزن نار تخمد الأيام شهوتنا
وتوقظها الرياح
والريح عندك كيف تلجمها
وما لك من سلاح
إلا لقاء الريح والنيران
في وطن مباح”
محمود درويش
يستنكحني حزن غريب، كلما عدت لهذه المدينة الساقطة نحو الأعلى، والصاعدة نحو القاع السحيق بلا هوادة، حزن يعبر داخلي كما يعبر الضباب ضفاف المنافي المغلقة والمقلقة..
آه يا مدينة العدم، يا لعنتنا الأبدية، وقبرنا الذي لم يسعنا، يا ملوحة الصباخ، ومرارة الدغموس، وزَبد الصمغ في الشاي، يا نفي هاجر، وحزن مريم، كلما ابتعدنا عنك لحظة زاد توغلك فينا، وكلما أتيناك زاد كرهك حد العمى؛ حتى لم نعد في الكره نتبين مواقع خطانا في سمادير لياليك الغربيبة، ولا في حندس نهاراتك الكابية..
آه يا مدينة الموت في الحياة، قربانا لأشباه الرجال!..
ها أنا قد عدت أيتها المحروسة بالضباع، يا مغارة لصوص “علي بابا”، ماخور البغات التقات، وكر الدجالين، ودكان الوهم والوهن..
عدت إليك يا مقبرة الأحياء، ومزبلة البشر، ووجدتك كما أعرفك، مخلصة لسماسرتك، وروائحك الكريهة، التي تغري بالغثيان والقيء، عدت وأنا أحمل معي في تلافيف الذاكرة، وخلايا العين تلك اللحظة التي ظلت فيها صامتة كآلهة اغريق مرمرية، وقد غطتها هالة من الحزن الكسيح، وهي ممسكة بفنجان قهوتها المرة، في ذلك الركن من مقهى الغرباء..
عدت وإحساس قميء يجتاحني، وأنا الذي تمنيت منها أن تتكلم، بدل ارتشاف مرارة سواد البن، بحلاوة منفتحة، كأن حنظل الحال، قتل كل حواسها..
عدت وأنا أحمل لهفة لسماع تلك القصة، التي تختفي وراء ذلك الوجه البريء، الذي كان مثلا وحكمة الجمال في كل زوايا المدينة، ولكن نصال القهر المتكسرة على نصال الوجع، والتي نيطت تمائمه على محياها، وقفت دون ذلك، وتركت صخبا صامتا يعلو على سكوتها، وتركتني مستسلما للصمت المطبق الذي يشبه العدم، يحس ولا يقبض؛ أستمع إلى أنين جرحها بصفاء، أنين آسي هو، كأنه حشرجة غزال مذبوح، منبعج من قاع سويداء قلبها السحيق، أنين يعربد في خابية روحها المتصدعة، يستطيع إن صرخ أن يغرق البحر، ويصم الأموات..
وحتى لو أنها ضغطت على زر الكلام، وأزاحت عني ثقل علامة الاستفهام، من أين كانت ستبدأ “شهرزادي” حكايتها، ربما بكلمات لا تشبه الكلمات!، فكلمات الحزن دوما ناقصات، ولا تقول كل الكلام، وليس بمقدورها نفض تلك الغبار العالقة في خلجان الروح حزنا.. وهل كانت لتبدأ من العقدة؟؛ من حد ذلك السكين الذي وشم الجرح، أم من البداية كما في كل الحكايا المفجعة؟؛ من يوم أطلقت حواس الأنثى صرخة رفضٍ مدوية، لخروج قسري في أرض ألف “شهريار”، أرض السقم الذي تقمصته كل الوجوه الكئيبة؟!..
من أين وكيف؟، وكل قصص الأنثى متشابهة هنا، إلا قليلا!..
عبثا كانت لتفعل لو تكلمت، فعربدة الكلام لم تعد تخدر الجروح، في زمن هوات الكلام من أجل الكلام..
ورغم كل الصمت، الذي جعلته لها ديرا ومتكفا، في زمن تصم فيه الآذان وجه صوت الحياة، كانت العيون كافية لفضح نداءات القلب وأشواقه، كانت تعكس في محاجرها خرائط الألم والطرق المبتورة، غير الموصلة إلى الحياة، عيون كانت متاهة وله، وبحر حب واسع الأفق، استحالت مهد فواجع وأحزان كابي اللون، وكئيب المنظر..
يتشابك الصمت بأصداء النداءات الضائعة، فتتداخل الأصوات وتتحول إلى كورس جنائزي لا متناهي، تاركا العيون التي كانت تفتش في ثنايا الكتب عن وقود لعربة حياتها، وفي مفاصل الأبجدية عن جواب لسؤال ذاتها ووجودها، إلى درجة الجنون، وحيدة منهكة ومنهكة، تحت وقع الصدف المنظمة، واستيلاء الرعب لا ترى من كل ذلك إلى مشهد جلادها، وهو يجرها نحو المقصلة، وقد تزنر بسيف أحقاده الخفية، قبل أن يعمده في قلبها، ويغرقها في بحر الموت والظلمات الأعمى، أو يقودها بعنجهية نحو مقابر الأحياء..
لم يكن المكان مدخل الحمراء، بل مخرج البيضاء التي تلد العتمة، حين مشيت مثل الطفل خلف شهرزادي البيظانية؛ دليلتي في طرق الصمت الشاحبة الموحشة، والتي لم أعانق فيها “طارق ابن زياد”، بقدر ما عانقت فيها ظلام “بني حسان”، وأكوام رماد حرائق إناثهم اللاتي سقطن في نيران نواميسهم مثل الفراشات..
لحظتها ضممتها بحنو متناهي، كمن يلمس مخطوطة عتيقة نادرة خشية خدشها، وهي الأرق من نسمة فجر، والأصفى من كمشة نور عصية القبض، كانت جد هشة، ولا تحتاج سوى لمسة حنونة، تطفئ حرائق سدنة المعابد البطريركية، مفتشو محاكم الأحاسيس المقدسة، ذوو الجلود الملساء كالأفعوان والقلوب السوداء كالفحم، أصنام الجاهلية الجدد، ورثة الوأد الغامض، والأحقاد الهادمة، التي دمرتها بعنف منفلت من كل عقال المنطق..
لا أعرف لما أكتب هذا، وأدونه، فالكتابة تتعمد ألا تقول الحقيقة كاملة، تلفيقا للجرح، وهذا الذي كتبت جزء صغير من مأساة “شهرزاد الكثيب”، وحقيقة مجتمع شهرياري الأحكام، بأشباه الرجال من ذكوره المتسلطين كبتا وعطشا لانكسار حواء بين يديهم، وإناث الظلام من نسائه الحاقدات، اللواتي أقسمن غلا أن ينسخن حيواتهن قسرا، في كل حياة تناغي الحياة، وأن يرمدن بذور التفاح في كل حواء..
ربما كتبته، لأني أعرف أنه في الظروف العادية لشابة كشهرزادي، تعيش عنفوان عمرها، ليس من العدل أن يتسرب وهجها من شقوق العمر، في الحزن، فأتت حروفي نكاية في هذه الظروف اللاعادية، واللاحياتية من زماننا نحن البدو المتمدنون زيفا، وانتصارا لها، وهي العزلى من أي سلاح سوى يقينها أنها تحب الحياة، إذا ما أستطاعت إليها سبيلا، وعليها أن تتحمل حرائق المولوتوف الأرعن هذا، والذي لم يكن من رماه رحيما بها، بقدر ما كان حاقدا، حين رماه في قلبها، بلا ذنب سوى أنها ولدت بالصدفة في الزمن الخطأ والمكان الذي لم يكن عليها أن تكون فيه، وعليها أن تقاتل في معركة ليست عادلة، وتدخل في أتون حرب الأحقاد اللامتوازنة، فهي في رحاها قطعا ستكون كذرة صغيرة ترفض أن تطحن نحو النهايات، والاستكانة لقدر مسلط عليها، فربما انقلب السحر على الساحر، واستحالت يداها المرتعشة إلى عصى موسى، تفجر من حجر قلوبهم الأصم عيون الحياة، أو تتلقف ما صنعوا..
لا أعرف، ولكني كتبته نكاية في سرادقات الأحياء، كتبته لأن الكتابة لحظة وجدانية، مَعْلمة حبريّة تقف ناصية الذكرى إحتراقا قاع محبرة عتيقة، وحرائق النصوص توثيق لأحلام ممططة لم تكتمل بعد..
كتبته؛ لأنزع عني قماط حزن أسود كفن القلب، واغتال غيلة تلك الغبطة التي عادة ما تسري في عروقي عند كل لقيا، كتبته؛ لأزيل مرارة منصوبة في حلقي على صليب مائل كجدران الحياة، كتبته؛ لأقبض على اللحظة الهاربة متن براق الزمن، وأسيِّجها حبريا في أقفاص الطراريس، حتى تتلقفها أيادي التاريخ الثرثار، وأنا على يقين بأنه من رحم أرض وجع المقال، ومن غياهب المستقبل الجبان، ومن عمق “الريح الحمراء” التي ستعصف بكل من أحرقوا الورد في أكمته، ووأدوا الأجنة قبل تكونها في الأرحام، وتكنسهم بالضبط نحو ذلك المكان الذي يسمى “مزبلة التاريخ”؛ سيخرج متزنرا بيراعه، ومتأبطا دواته، من سيبلسم هذه الجراح المتقيحة خفية تحت ضماد الخضاب، من سيفتش في الذكريات العالقة عن ألوان غير ألوان الدم القاني، ويرسم بريشة الفنان لوحة السعادة الهاربة، أو يكتب بشطط الأبجديات إلياذة، تحمل في ثناياها ملحمية كل شهرزادات بلاد الخوف والحيوات الضائعة..