في بدايةِ الأمر، كنتُ أُحِسُ بأن دمشق قريبة جداً، أو قبلَ بدءَِ أي شيء حتى، وحتى لم يكن مجردَ إحساس، قد كانت كذلك بالفعل، لقد كانت قريبةً منا جداً، كان يستغرقُ السفرُ إليها بضع دقائق، ومع ذلك كنت أُحِسُ بأنني ابن دمشق، أشعرُ وكأن روحي تتنفس كلما مشيت فيها، كلما تنشقت ياسمينها، كلما برقتْ عيناي بجمالها، وعراقتها، لكن الآن شعوري مضاعف، شعوري مثقل بالهموم والأشواق، لتلك الأم التي غبتِ عنها، أصبح الآن الوصول إليها ليس إلا محض خيال، ليس إلا أمنية لن تتحقق..
أصبحتُ كالزهرة التي لوت قامتها الثلوج، بعد سيطرة البرد لهذا المكان السقيم، أصبحت كأي شيء كُسِرَ ولن يُجبر إلا بتحقيق تلك الأمنية، صِرتُ أرى قاسيون من بعيد، وكأني أنا الغريب عنه، حاملاً إليه في قلبي آلاف المشاعر، أحمل إليه في كل جسدي شوق، بل حتى صارَ جسدي شوقاً على هيئةِ جسد، تلك مشاعري، ومشاعر جميع المسجونين حيث نعيش، أو حيث نتظاهر بأننا على قيد الحياة.
هذا السجن قد فتح عيني الثالثة، وجعلني أصغي لنبضاتٍ خفيةٍ وعميقة، أبلجُ من ذلك الشعورِ بالقرب والبعد المحسوس من دمشق، جعل السجنُ مني وطناً لطفلتي دمشق، أيقنتُ بأنها تسكن قلبي، أصبحتُ رحماً أحتضن دمشقيتي وهويتي.
والله لقد تَفتحت في عقلي وريداتٍ من التفكير، تفكيرٍ من نوع آخر، الإحساسُ بالغير، تَوّقعُ الظروفِ الأسوء، وما آل إليه بعضُ الناس، وما الحال المُتَوّقعِ بعدها، وأحداث تلوَ أحداث يمخضها عقلي في كل حدث يجري، صغيراً كان أم كبيراً، فحيث أعيش لا أجد سوى الفكر الذي حُرِرَ من القيود.
في الوداع الأخير يستحضرُ الجميعُ سرب الطيورِ الّذي احتشدَ مهاجراً في الأفقْ، مودّعاً خريفَ المدينة على أمَلِ اللّقاءِ في ربيعٍ مقبلِ، وهل من لقاء؟
أعتقد أنه لا لقاء بعد اليوم لا اللذين اغتربو سيلقون أوطانهم، ولا حتى أنا سألقى دمشقيتي.
ففي بوتقتي، عاشَ الكثيرُ منَ البشرِ على ماءِ السماءِ والدعاءِ والتضرعْ، والقلةِ والتقشف، في حين عِشتُ أنا على أمل أن أعانق سحابها، وأطيرُ مغرداً في صفوها، أن أعيش في وطني كريماً، وأموت عفيفاً محباً، على أمل اللقاء بدمشق التي أسميتها دمشقيتي.
كاتب التدوينة: زاهر شكير