دنيا قد جئنا إليها عنوةً بدون اختيار، كان هذا من فعل آبائنا في ليلة صفاء، اجتمعوا فيها وتقابلوا ليخرجونا إلى دنيا نقابلها بصرخة، ونخرج منها بصرخة، وما بين الصرختين حب لها، وتمسك بها رغم قسوتها، وعنفوانها، وصعوباتها، ومرارة آلامها؛ هي سنة الله في كونه، تستمر إلى يوم موعود لا يعلم غيبه إلا المعبود، فنسير في أرضها غير آبهين بمثابرة أهلنا، نتواكل عليهم في أمور حياتنا، ونركض فيها، ونتعلم، ونجد ونجتهد؛ ولم لا؟! ونحن لم نختر وجودنا في الحياة! بل جئنا بنزوة من الآباء فنكرر فعلهم في الحياة.
فالذكريات، والعواطف، والمشاعر، تبقى أبدًا ما بقي الإنسان، فكل ما نلقاه من يوم ولادتنا وأثناء حياتنا، يستقر في قرارة النفس كقرار اليقين، ويسكن في أعماقها، سواء ما تذكرنا منها وما نسينا، وما بها من لذة وما بها من ألم.
فأنا أروي من الأحداث، ما تأثرت به نفسي، وما انفعل به شعوري وفكري، فكان في اعتقادي منذ الصغر، أن الفرد مثل الفرد الآخر له حقوق وعليه واجبات، وإن اختلفوا في الفقر، والغنى، والحرف، والمهن، والوظائف، أو كان أحدهم رئيسًا أو مرؤوسًا، حتى لو اختلفوا في الألقاب، والتعليم، والتنشئة، والبيئة؛ ولكن لم يختلفوا في أنهم أناس وبشر متساوون في الحقوق والواجبات، سواءً بسواء أمام القانون، كل منهم له حق في الحرية وحق في الحياة، وحق في ضروريات العيش والمساواة، حتى الرواتب تكون على حسب أدوارهم، لا على حسب الوجاهة، والوساطة، فكأن وجودهم في الحياة كفريق تمثيل واحد، كل واحد منهم له دور محدد يلتزم به سواء كان دوره غنيّا، أو فقيرًا، أو رئيسًا أو مرؤوسًا، فمن العدل أن يكون الحكم عليهم على حسب كفاءتهم في أداء أدوارهم، وبراعتهم فيه، لا على حسب نوع الدور الذي يقوم به.
في الماضي علمونا قول العربي الأول: العبد يقرع بالعصا؛ والحر تكفيه الإشارة. فقالوا إن العبد لا يعمل إلا بالخوف، والسيد يعمل بالرغبة، العبد لا يتحمل المسئولية؛ لأنها تطلب الشجاعة، والسيد يتحملها لأنها توافق رجولته، فالحكومة في نظر العبد جبروت، وشبح، يخاف منه، ويخجله – ورثوه عن أجدادهم فهموا أن يورثوه لنا – والسيد في نظره مفخرة وسند له؛ فحكموا على العبيد بأنهم لا يصلحون أن يتكلموا – كمن في فيه ماء لا يستطيع الحديث – فقد انسدت بماء الوهم، والخراب، والطمع، والاستبداد، حتى كاد أن ينطق الماء من فيه، ويصرخ في كل هذا العثرات، والمتاهات.
فتكالبت علينا الدنيا ورأينا السخرية أشكالًا، وألوانًا، فسخرة المصالح العامة، كالمحافظة على الاقتصاد، والأمن وغيرها، وسخرة المصالح الخاصة، فالغني الكبير يتجبر بماله على الفقير الصغير، ويسخرهم لخدمته؛ ولم لا؟! فلهم الحق أن يستغلوا ما شاؤوا من موارد لتحقيق مصالحهم الشخصية.
ويعجبني قول شاعر قد عوتب على صمته فقال: قالت الضفدعة قولًا فسرته الحكماء: في فمي ماء وهل ينطق من كان في فيه ماء؟! فالسادة قادرون على قول ما يشاؤون، ولكن يخافون من المساءلة أو حرصهم على تأزم الموقف أو مخالفة الماضي؛ فهل ينفع القول مع الخوف؟ أم ينفع الشرك مع العبادة؟ فاختار الشاعر الضفدع لتواجدها في الماء فنسبوا لها حسن الصمت وعدم الإكثار من الكلام، بحيث يسلم من يصمت، ولا يؤاخذ برأي موافق، ولا رافض، فعلل آباؤنا بأن الماء هو الذي منعها عن الكلام، وهذا عذرا جعلها في نظر الآخرين قليلة الكلام، وبالتالي كأنهم يقولون لنا اتخذوا هذا النهج الذي اتخذته الضفدع وانسبوا الصمت لشيء مما يحيط بكم للسلامة في كل حال، فهل هذا قول معقول؟ أم إسراف مبذول؟؛ ولكن الحقيقة أن الصمت وقع في النفس حتى كاد أن ينطق الماء من الفم!
العالم كله عبارة عن آلة موسيقية ضخمة، ينسج الفرد لحياته نغمات، فإما أن تكون منسجمة، ومنسقة، تستأنسها الأذن، وإما أن تكون مبعثرة يستنكرها السامعون، فكذلك يجلس أصحاب السيادة على الآلة، لينسجوا نغمات اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، مختلفة قد تكون سوية، ومتناسقة، ومنسجمة، نتجاوب معها ونألفها، ونتفاعل معها، فلو كانت كذلك ما كان للجوع، ولا للشقاء موطن في عيشنا، وإما أن نستنكرها، ونرفضها.
في الماضي حلمنا بالكبر ليكون لنا قدر في إقرار مصيرنا، والتصرف في عيش حياتنا، والاستقلال عن عيش آبائنا، ونكوّن فكر حياتنا؛ فخرجنا ذهابًا وإيابًا، لنتعلم ما رغبنا التعلم فيه، فلم أتصور أبدًا؛ أنني سأصطدم بجدار متين، لم أستطيع تخطيه، فوجدت خلاف ما علمت، وتعلمت، فرأيت هناك سادة ــ يستحقون لقب السادة لأنهم سادة القوم ــ ورأيت أصحاب السيادة، فقلت في نفسي، أتظن أنك من السادة؟ أم من صاحب السيادة؟ أم أنك تقدر بالملايين وتحرم من القوت لتموت جوعًا، فتقام في وجهك السدود، والحواجز والحصون، حتى لا يتسرب منها شيء للجائعين؟ فكتبت مقالتي ظنًا مني أنها ستُخلصني مما أصابني، فهي إما أن تريح غضبي، وتخفف عني ما ألم بي، وإما أن تشعله أكثر مما أنا عليه، فيزيدني الارتباك والخوف عنوتًا.
أتعتقد أنني سأقسوا على السادة؟ أم أصحاب السيادة؟ أم على دنيا لا نملك فيها شيئًا مما حلمنا؟ أتعتقد أني سأقسوا عليهم! فهم ألهوا أنفسهم علينا بعلم الغيب الذي حرمه الله على الجميع! وأنهم هم من وهبهم الله العقل عن باقي خلقه فوجدوا أن الحق لهم في التحكم في أمورنا ويضعوا الماء في أفواهنا، حتى كاد أن ينطق الماء، فاتخذوا من زهد العيش مركبًا، فوضعوا عامة الشعب في أسفله يتناحرون يتناجون يلتقطون أنفاسهم الأخيرة، من كثرة زهدهم، حتى أصبح الضعفاء لا يستطيع السادة. العبيد. التحمل! فاعتلوا هم أعلى المركب حيث الراحة والطمأنينة وصفاء الجو وهواؤه النقي، والعيشة الرغدة ــ لكي يشرعوا قرارات الزهد ــ أعتقد أنهم لم يدركوا حقيقة أن غرق المركب يأتي من الأسفل! فالسادة سيغرقون أصحاب السيادة، فما كان السبيل سواء التخلص منهم والضغط عليهم حتى يؤدي الأمر إلى انتحارهم والغرق في أعماق بحارهم.
أتظن أن عباد الماضي سيموتون شهداء؟! ولم لا؟ فقد تقطعت بهم السبل، وضاقت عليهم الحناجر وتغلغل في نفوسهم اليأس والبؤس، حتى تملك منهم، ــ ليس بأيديهم ولا من فعلهم ــ فكل ما علينا فعله هو أن نستمتع بشرارالأمور، ونضحك ضحكة قد ملأتها السخرية، والاستهزاء، والجنون، بعقول تطوف بالهذيان في ممر مشئوم مظلم مخذول سيؤدي إلى الهلاك المحتوم.