موت، كلمة بثلاث أحرف تحيل على معنى واحد ووحيد، ينحصر في كلمة هي الأخرى بثلاثة أحرف تجتمع لتكون هي أيضا كلمة فقد..
أن تموت معناه أن تذهب روحك إلى خالقها، وتترك جسدك ليوارى إلى الثرى ثم يتعود ذويك، أقرباءك، وأحبتك على معايشة واقع فرض نفسه بدونك، فتنسى ويلقى بك في نوستالجيا ذكريات تكون جميلة في حالة نجاحك في أن يقال عنك بإيجابية رحم الله فلان كان وكان وكان… على عكس ما يحيل إليه معنى الكلمة لدى الكل، تتعدد التفاسير وتكثر الانطباعات التي يمكن أن يسلط عليها الضوء انطلاقا من عتمة الموت، إذ يمكن أن نموت ونحن على قيد الحياة، ويمكن أن تموت روحنا وجسدنا يحيا؛ ليلبي أدواره البيولجية دون وعي أنه بروح تحتاج للسقي والإطعام من وقت إلى آخر، وأن ماهية وجوده تعانق السمو، بسمو روحه عن شرور الأدمية وآثامها.
نموت عندما نفقد شخصا نحبه، لأننا بعده نعاني من فراغ كان يملأه بوجوده، ويصقله بخاصته وتفاصيله التي تسعده ويجعلنا نغمر معا بنفس سعادته، عندما نفقد من نحب، نموت تعطشا واشتياقا لكل ذكرى ربطتنا معه وجمعتنا به ومضت إلى زوال لم نكن متوقعيه، بعدما وثقنا بزيف أننا لن نعيش قط ذاك الفقد ولن نتذوق حتى مرارة الانفصال عنه، وتناسينا أن القدر ما يظل سيد المواقف في كل الأزمنة والأمكنة والظروف..
نموت عندما يغادرنا صديق أيضا ولا نجد من نشاركه أسرارنا بأريحية، أو حتى من نضع رأسنا على كتفه لنبوح بكل ما يحز في نفسنا ويعيق تقدمنا وأملنا إلى غد أفضل في الحياة، نعم نموت حينما تفرقنا المسافات وتجبرنا على التأقلم مع أشخاص آخرين يختلفونا عنا من جميع الجوانب التي يترأسها اختلاف المبدأ، الذي يظل ذلك العمود الذي لا يفسد للود قضية، بعيدا عن المبدأ، وفي خضم اختلافات أخرى لا تقاس فيها حرياتنا، كي نثبت ما تصبو إليه المقولة..
نموت حينما نعلم أنه في ضفة من الحياة، ونحن في الأخرى، كل منا يكابد صعابه وحده، يواكب التيار مرة ويسير عكسه مرات، يفشل ويسقط دون أن يجد اليد التي ألفت أن تنهضه من على الأرض قبل أن تصافحه عند الوصول، نموت حينما نحتفظ بأجزاءنا لوحدنا إيمانا منا أن الصديق الروحي الذي فقدناه وحده من يفهمنا، وحده من يفرح لفرحنا ويقرح لقرحنا ويضمد جراحنا ويجبر كسرنا…
نموت عندما تنداس كرامتنا، سذاجة منا حينما نغفل عن إكمال جانب من جوانب تقدير الذات التي تحثنا على تفادي أي موقف يستدعي فقد الكرامة، التي سعينا منذ أن رأينا النور بين أحضان الكون، أن لا نعيش من دونها وعندما نقبل أنطأطأ رأسنا ونتجاوز عن دهسها! ثم نمت بعدها عله يكون أرحم من أن نعيش إنسانا دون كرامة..
نموت عندما نغتر بقوانا وننتشي على حساب كرامة الآخر، دون أن نقدر ما يفعله لأجلنا أو دون اعتراف له بجميل أو مبادرة كان يحسبها ستجدي نفعا معنا، فعلها بكرامة ليتفاجئ في الأخير بفقدانها بسبب جمود ردود أفعالنا فشتان بين التقدير الذي نفهمه نحن والذي يؤولونه هم، لهم دينهم ولنا دين…
نموت عندما يغيب عندنا معنى تقدير، تقدير قيم تلقيناها منذ الصغر، تقدير الآخر كإنسان قبل كل شيء، وتقدير ما يصدر منه حتى في أسوء الحالات، بعيدا عن الضعف ولكنه أقرب إلى نضج من نوع آخر يصعب الوصول إليه إلا للممنعين ضد داء عدم الاقتناع التام..
نموت عندما يمرض أحد أقاربنا، ونضحك في وجهه كل يوم محاولين إقناعه بأنه ما بعد الفجر تشرق حتما شمس بهيجة، وأن بصيص الأمل هو ذاك الخيط المفعم بضوء خافت وسط دجى حالك، ونحن نسحق ألما داخليا خوفا من أن نفقده بين الفينة والأخرى بسبب ذاك الابتلاء ثم ما ننفك نسترجع أملنا الرباني وثقتنا في قوانين الكون التي جزم فيها، والتي على رأسها مكسب الإنسان في الغد وعدم دراية المرء بأي أرض سيموت وكذا كل الأشياء المقسمة بقدر وأن العمر بيد الله وحده، ليس رهينا لا بصحة ولا بمرض، بجاه لا بسلطة أو من دونها، رهين بقدر محكم ومضبوط وكأنه حكم بصفارة واقف ينتظر إشارة ليعطي هو بدوره إشارة إنهاء المباراة، التي بدأت بوقت حسم وستنتهي بوقت محسوم، نحن هكذا نموت بالأجزاء، نموت بالتقسيط بعد كل خيبة..