“على هذه الأرض ما يستحق الكلام”.
تسعةُ مليار دينار سنويا (3.75 مليار دولار)، هو ليسَ بقرضٍ مُسند لبلادنا من أحد المؤسسات المالية الاستعمارية العالمية، هو خسارةٌ لهذه الدولة قدّرها الخبراء، خسارةٌ اقتصادية طالتْ هذه الدولة منذُ سنة 1947 جرّاء عقودِ نهبِ الملح المُبرمة مع الدولة الفرنسية.
ألا يوجد على هذه الأرض ما يستحقُ الكلام؟
30 مليون دينار (12.5 مليون دولار)، هو ليسَ بهبةٍ من أحد دولنا العربية الشقيقة، بل هو نصيبُ تونس من هذه الثروة في العام! أليس هذا “بالحيف”!
تختلفُ الخسائر والمتسبب معلوم، أصابعُ الاتهام واضحة في قضيةٍ راح ضحيّتها مدينتا “بن قردان” التي تنظرُ بأعينٍ حائرة لثرواتها وهي تُنهَب ليلا نهارًا وما من حل، ملفاتٌ أُتلفَت في شأنها، وحكوماتٌ قد “طبست” لناهبها.
خسائرٌ، تليها خسائر!
واحد فرنك ثمن الهكتار الواحد!
نعم! في دولتي يُؤجّر الهكتار الواحد لاستخراجِ ثرواتها لمن اغتصبَ سيادتها من قبل، ولا يسدُّ جميع ما نُهِبَ جوعه، وكبته.
ملح هذه الأرض يُمْتصُّ بِبَلاش جرّاء اتفاقيات مبرمة قديما مع الدولة الفرنسية تخلت بلادنا عن ثروتها وثروة هذا الشعب المُهان ترضية لأولئك الذين نهبوا كرامة وسيادة هذا الوطن قديما.
“سبخة العذيبات” التي تبعد على مدينة بن قردان قرابة 16 كلم، هي ليست بقِفار أو مرمى للنفايات لمن لا يعلم، هي منجم الذهبِ الأبيض بالجنوب التونسي، والذي شهد لها أهل الخبرة بأنّها مفتاح الثراء والنماء والازدهار لأهالي مدينة بن قردان.
حتى يعلم الجميع أنّ مكتب دراسات أمريكي توصّل خلال الثمانينات إلى إعداد دراسة لهذه السبخة، واكتشفوا كنوزها إذ تمتدُ هذه السبخة على 12 ألف و500 هكتار، وتنتج 250 مترا مكعبا من الأملاح ذات الملوحة العالية، بمعدل 300 غرام في اللتر و50 مليون طن من (كلورير السود يوم)، الذي يُستخدم في عديد أصناف الأدوية، وهو ما يغطي 500 سنة من الاستهلاك الوطني، إلى جانب احتوائها على 8.5 مليون طن من مادة (صلفات دي سوديوم والما نيزيوم) بما يغطي حاجياتِ الاستهلاك الوطنيّ لمدة 400سنة.
هذا إلى جانبِ توفير الاحتياجات الاستهلاكية للشّعب التونسيّ من الملح (بوتاسيوم) لحوالي 200 سنة بمعدل مليوني طن كما كشفت الدراسات، التي أنجزها هؤلاء الخبراء لفائدة الديوان الوطني للمناجم عن توفر مادة (اليتيوم) في هذه السبخة، وهي مادةٌ تستخدم في صناعة أدوية الاضطرابات النفسية، وكذلك في بطاريات شحن الحاسوب، والهاتف الجوال وغيرها وكذلك مادة (البور)، التي تُستخرج منها أسمدة تغذية التربة الفلاحية الفقيرة، ومواد طبيّة مطهرة للجراحة والعمليات، وكذلك المواد المُضادة للحشرات، وهي مادة غير ملوثة للبيئة، وقد تمّ تقديم هذه الدراسات إلى وزارتي البيئة والفلاحة، ورُفعت الجلسة.
آلا يوجدُ فوق هذه الأرض ما يستحق الكلام!
“كتوزال”، هو ليس اسمًا لنُزلٍ حلال، أو مقهًى لأحد أعيان البلاد بإحدى أحياء تونس الراقية، هذا اسمُ السّفّاح الذي يمتصّ ملح الأرض بلا هوان، وما من متكلم!
عقودٌ مُبرمة مع هذه الشركة، ووعود من حكوماتنا المتتالية بمراجعة هذه العقود، ولكن كما يقول المثل “اللّسان مافيهوش عظم”.
منهم من اتّخذ معضلة هذه الملفات وسيلةً يتصنّع بها حِرفة المُرافعةِ عن هذا الشّعب، والتكلم باسمه، ويوهِم الجميع بأنّه هو المهدي المُنتظر لحلّ هذه المشاكل، وإذْ بهِ يقبع في بناية الوطن مغلقا فاه، راجيًّا رضاء ومغفرة أميره، بعد أن أسكتهُ بمنصبِ وزاريّ يطفئُ بها نارهُ المستعرة في “بلاتوات” القنوات.
ومنهم من بقي باكيّا، ناحبا، ونادبا على ما تراه عينه، يؤلمهُ قلبه دونَ مقدرة على تغيير شيء.
عزم وزير الصناعة الأسبق، زكريا حمد وحكومته حسب تصريحه في ديسمبر 2015 على مراجعة العقد المبرم مع شركة “كتوزال” الفرنسية، وتثمين هذه الثروة طبقا لمقتضيات دستور البلاد الجديد.
هو كما يُقال بالعامية التونسية: “تبهبير سياسي” فما من عزمٍ، وما مِن فعل.
آلا يوجد فوقَ هذه الأرض ما يستحق الكلام!
هذه ثرواتنا، ورزقنا، يُنهبانِ بالأمس واليوم، ويُحوّل للخارج لتلبية طلباتِ الغاصب، ثمّ يُستورد إلينا بأثمان مضاعفةٍ، وبعملة صعبة.
قُصارى هذا الحديث، أنّنا اليوم كشعبٍ مغلوب على أمره، يدفع فاتورة تواطئ ومسكنةِ سياساتٍ عفنة متعاقبة، وحكومات برمّتها، لا تجرؤ على المساسِ بعقدٍ مُبرم مع شركة فرنسية، لكنّها قادرة على إسكات أفواه أناس تنادي بحقها. إنّه الجبن السياسي بعينه.
ويشرفني أن أنقل بعضًا من الأبيات، لقصيدة صديقي وابن بلدتي وشريكي في هذا الوجع، الشّاعر الشّاب: “ضو الحداد”، الذي ما دفعه لكتابتها إلاّ حجمُ القهر، والظلم الذي عايشهُ مثلَ ما نعيشه نحن، وأيقن أنّ على هذه الأرض ما يستحق الكلام والشعر.
هي قصيدة قد أبدع في كتابتها، يقول:
وأنا شهوتي، نشوف شهوتي بأعياني قبل موتِّي يا ريت
شاهي شهوة
وموش شهوتي في عشايا
وموش شهوتي بالذات
هي شهوة الناس معايا
أني شهوتي شهوات
شهوة عشايا في حشايا يبات
وإنبات هاني
وعادي الصدڤة اتجوز على البرّاني.
إذا شبع مولى البيت،
أني شهوتي انشوف شهوتي بعياني.
ڤبل موتي ياريت وشاهي يعود ضمارنا
وتطفى لهايب نارنا بالنكتة
وننسوا غصايص همنا بالنكتة
لا سوّ لا عذابات
هزوه منا ملحنا بالنّكتة
مصوه العذبات
أرجوك كوتوزال ما عاد ما مزال.
هزيه ملح الأرض، مٌصيه ملح الضحكة
مازال هذا الحال دوسيه حتى العرض
ومصيه حتى دمنا، أرجوك خلّي همَّنا
اتهزيش حتى همنا ونبقوا بلاشِ همّ؟
ولو كان فيها رجال اللي مشى بالدمّ
يرجع إلاّ، بالدم..