منذُ كنتُ طفلة وحتى الآن كلّما كبرتُ يوماً كبُرَ حب الطب في قلبي أعواماً، شغفه يسكنني سكناً أبدياً وتبقى حروفه الأربعة لها مكانة خاصة في قلبي.
الحب في سبيله شيءٌ عظيم، شيءٌ ينقذ أرواحاً خلفها قلوب معلّقة على أملِ نجاتها، لم أعرف حتى الآن سرَّ حبي للطب ربما لأنني أمضيت طفولتي بين العيادات الطبية مع أمي وخالي الكبير وخالي الذي يصغره بعامين أو أن حب الطب مزروعٌ في جيناتي وكلما كبرتُ زاد شغفي لأتعمق في دراسته أكثر.
في يوم الجمعة تم تحديد عملية جراحية لأخي (عملية إيثاق مشاش)، منذ علمت أن أخي سَيجرى له عملية صممتُ على حضورها بعد موافقة الطبيب عمر، رغم أنه ليس من السهل أن يوافق الطبيب على حضور أي شخص لأن هذا ممنوع ويسبب خطر على المريض.
ولكن الدكتور عمر وافق، كان قد أجرى لي عمليتين قبل أخي؛ وأيضاً عائلتنا وعائلتهم أصدقاء.
وبالفعل وافق الطبيب عمر على حضوري للعملية، لا أدري أي فرحٍ انتابني وكأن الله أرسل لي هدية من السماء.
أمضيت أسبوع وأنا مليئة بالحماس لحضورها، رغم الكلام الذي تلقيته من بعض الأشخاص حولي..
كيف ستحضري وخصوصاً المريض أخاك، ولم تكملي الستة عشر عاماً؟!
يا إلهي كم ستجمعي من القوة لحضورها؟
هل فكرت بالأمر جيداً، مجرد أن يأتي الطبيب بالمشرط وتبدأ الدماء بالسيلان، أنا متأكدة ستسقطين أرضاً.
كلامهم لم يزدني إلا قوة وإصراراً
وصلنا المشفى التاسعة صباحاً، عند دخولك للمشفى لن ترى عيناك إلا الأبيض والأخضر، الجميع يتعاون ليأدون رسالة إنسانية.
سترى آباء ينتظرون أطفالهم، يمشون بين ممرات المشفى ذهاباً وإياباً والقلق مسيطر عليهم حتى يسمعون أول صرخة لطفلهم وما أجملها من لحظات، في المشفى غرفٌ تحكي أوجاعاً وأخرى تنجب آمالاً. دخلت مع الدكتور عمر إلى غرفة العمليات، أخي مستلقي على السرير وأنابيب في فمه موصولة بأجهزة وفي وريده إبرة مصل، وكأنه غط في غيبوبة بعد أن سرى التخدير في جسده، والأطباء يغطيهم اللون الأخضر من رأسهم حتى أخمص قدمهم..
كنت أقف خلف الدكتور مباشرةً وأجمع طاقتي بكل ما أوتيت من قوة لخوض هذه المغامرة.. بدأ العمل الجراحي، الدكتور يجري العملية ويشرح لي ما يحدث، كنت أركز بكل خطوة وحواسي كلها باتجاه العملية وكأنه سيجرى لي اختباراً فيها.
انتهت العملية ولم أسقط أرضاً مثل ما قال أحدهم ولم أشعر بالدوار من منظر الدماء؛ كنت في غاية السعادة على هذه التجربة الرائعة..
عند عودتي من المشفى سألوني باندهاش: كيف تستطيعين أن تكوني بهذه الصلابة والليونة في آن واحد؟
رددت: كل صلب يكسر وكل لينٍ يلوى فأردت أن أكون بينهما، فالانكسارات والالتواءات لا تليق بنفوس المؤمنات..
عندما يكون الطبيب قادراً على جعل المريض يرتاح نفسياً قبل أن يرتاح جسدياً فاعلم أنه هو من يستحق كلمة “دكتور” بجدارة، وأن يخبره طفل صغير بكل حماس “سأكبر وأكون مثلك”.. ابتسامة مريض، كافية حتى يكمل يومه بكل صبر وإخلاص، يتفقد مريضه باستمرار؛ قسماً نحن بحاجة لمثل هؤلاء الأطباء.
تعلمت من أمي وخالي الكبير وخالي الذي يصغره بعامين والدكتور عمر “إما أن تحمل رسالة الطب بعلم يؤهلك لمسؤلية كبيرة وصبر عالي وأخلاق راقية أو تنسحب، الطب ليس للتباهي به هو أعظم من التهاون فيه؛ فثواني من الإهمال تقتل أرواحا، الطب أرقى من ذلك بكثير”.
أدرس بجد وأعلم أنك ستقف يوما ما أمام مريض يلفظ أنفاسه الأخيرة وأنت أمله الوحيد بعد الله، وتأتي امرأة تدعي لك لأنك أنقذت ابنها الوحيد بعد صراع مع المرض دام لسنوات، ادرس بجد وكن دقيق الملاحظة؛ بين يديك روح ستسأل عنها يوم القيامة، إن كنت سبب وفاتها، ستتعب اليوم وهذا أكيد فلا لذة للنجاح دون تعب؛حين تقف على خشبة المسرح يوم التخرج، ستنسى تعب الليالي الطويلة وأنت منهمك في الكتب وفك الطلاسم اللاتينية.
علينا أن نعترف أجمل نساء الكون فتاة تسهر وتتعب لتنال شرف ارتدائها الأبيض، لا لعرسها ولليلة واحدة؛ بل لعمرها المتبقي، لحلمها… لتصبح طبيبة.
وعلينا أن نعترف أن أجمل الرجال هم من يسهرون ويتعبون، يضحون بأجمل لحظات شبابهم بين الأصدقاء والأهل؛ لينالوا شرف ارتدائهم الأبيض، ليحققوا حلمهم ويرضوا ربهم، ويفرحوا لفرحة والديهم.
كاتب التدوينة: هلا الموسى