أهلا بكلّ أطيافِ الأقلامِ والأوراق.
أودُّ اليوم لو تعرفونَ حقيقةً، لطالما غابتْ عن الكثيرِ منكُم.
فأنا مجردُ قلمِ رصاصٍ، كما يُطلقون عليّ، وربّما يطلقون عليّ النار.
حينما أصفُ لكم نفسي، سأبدأُ من قلبي والذي جُبِل على السّيرِ وراءَ أيّ خطأ يرتكبهُ عقلي بسنّه المُدبّب، فتمحوهُ مُضغةُ قلبي الليّنة بكلّ سهولة، ويسمونها الممحاة، يحدُث ذلك حينَ أكتبُ بعقلي ما لا يفهمُه قلبي، أو روحي، فعقلي خُلِق للتفكير فيما تُمليه عليه نفسي، ولطالما أخطأ الاثنان معًا، في الوقتِ الذي أحاولُ أنْ أجعلَ عقلي يتصالحُ مع قلبي، فيفكر القلبُ وينفذ العقل، أمّا النّفس فقد وُصِفَت هكذا في القرآن: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}، وأحاولُ أﻻَّ أمتثلَ إليها .
ويا لتلكَ العلاقةِ الوطيدة بيني وبين الأوراق، اليبضاء منها فقط. فهي التي أعانقُها كلّما اقتربتُ منها، وتقبّلني بوضوحٍ بما فيّ من أخطاء ارتكبتُها، وإن أدركني الخطأ محوتُه، وأدركتُ الصّواب على نحوٍ ما، فكمْ من أنواعِ الأقلام التي تشوّه ورقي الأبيض، وعلى الرّغم من أنّ جزءًا مِن أخطائي يظلُّ مُدوَّنا عليها، خافتًا، إلاّ أنّ نصاعةَ بياضِ الورق يطغَى على كلّ تلكَ الآثار، فيمحيها ويُضفي عليها رونقًا جديدا.
وبالرّغم من كوني قلمَ رصاص، فأنا أكتبُ على كلّ الأشياءِ إلاَّ الزجاج.
غريبةٌ تلكَ القوارير التي تأبى إلاّ أن يُكتب عليها بموادٍ شديدةِ الصّلابة فلا تُمحى، وتقبل بطواعيةٍ أن يُشكّل عليها من كلمات أو رسمٍ، فتصبحَ كالأيقونة لا روحَ فيها، إلاّ ما قد طُبع أو رُسِم عليها من شكلٍ ثابتٍ يفنى انبهارنا به بعدَ مرور الزمن.
لكنّي أنا القلم الرصاص، وجدتُ طريقةً أخرى لكيّ أكتبَ له ما أحب، وهي أن أكتبَ على ورقةٍ بيضاء، وأضعَها على سطحهِ الأملس الشّفاف، فإنْ كانت صحيحةً تركتُها، وإن كان بها خطأ نزعتها، وأعدتُ كتابتها مرةً أخرى.
ولا أنسى هنا ملكة سبأ المندهشة والمنبهرة، عندما رأت الزّجاج لأول مرة، لمّا ذهبتْ لنبيّ الله سليمان الحكيم عليه السلام، {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ}، وكأنَّ القوارير، أو الزجاج خُلقَ ليعبّر عن شفافيةِ وبراءة إيمانِ المرأة.
أنا ولا فخر أبدا، أكتبُ، فأخطئُ، فأمحو، ثمَّ أكتبُ وأمحو ملايينَ المرات، ولا ضيْر في ذلكَ، فتلكَ الطبيعة البشرية. وأنا أطمحُ أنْ أكونَ بشريًّا يومًا ما.
ولا غرابةَ في ذلك فقد أقسمَ الله الخالقُ لكلّ شيءٍ بي، فقالَ سبحانه وتعالى: {ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}، وكنتُ أنا من أوائل رواد أقلامِ العصر الحديث، الذي تداركَ تلك النعمة من مقدرة التسامح والتصافح عن أيّ خطأ أرتكبُه.
ولا أشكُّ أنّ الله خلقني قبلَ خلقِ اللّوح، ودليلي على ذلك حينما أنزلَ الله أولَ كلمةٍ في سُور القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، فما بالي أقرأُ ولا شيء مكتوب، وكيفَ يكون ُمكتوبًا، دون وجودِ قلمٍ قبل اللّوح وقبل أن أقرأ.
ويُذكر في الأثر عن تاريخ نشأتي في الأرض، أنّ أول مَن ملكني من بني آدم، وخطّ أول حروفِ لغةٍ مكتوبة، هو نبيّ الله إدريس عليه السلام حين كان بمصر.
ولا ينافسُني أحد كوني أول من دوّن الفكرة والحلم لكلّ عظماء التاريخ، فإنّ كلّ مَن استخدمني أصبحَ له شأنٌ وقيمة، أمثال العلماء والأدباء والمفكرين والفلاسفة، وبالتأكيد أعظم المهندسين والمخترعين.
ولا يفوتُني هنا أن أذكرَ ايام الطفولة السّعيدة، وما أسعدني حينما كنتُ في يدِ طفلٍ تتلّمسُ أناملَه الهشّة أوّلَ خطوطِ حروفِ الأبجدية، وكم أضحكني ذلكَ الطفل، حينما كانَ يحاول مسكي لأول مرة، فلا يعرفُ من أيّ جهةٍ يبدأ، مرةً يُمسكني من الأعلى، وتارةً من الوسط، وأخرى مقلوبًا..
وكنتُ أﻻطفهُ ريثما يتمكنُّ من كتابةِ ورسمِ أول حروف اﻷبجدية، وكم أوجعني مئاتَ المرات، فقصفني كما تُقصف المدن بالرصاص، لكنّي كنت أحسّه يحاول مصافحتي بيده البريئة، لنبدأ معًا مشوار النّضج الفكريّ، وكلّما قصفني كنتُ أتجدد ثانيةً لأجله، أتجدّد حينما يَبريني كما لو كانَ يَشفيني، فأشعر بالانتعاشِ مرةً أخرى.
وحين استقامَ عودُ ذلكَ الطفل، ونضُج، لم يعد يحيّره، من أين يمسكني، بل أصبحَ السّؤال أين يضعني، فدُعابات بني الانسان معي كثيرة، فعلى سبيل المثال، كلٌّ من المهندس والرسام والنجار يفضلون وضعي بين الأذن والعين، وكأنّني أرى وأسمع بدلا منهما، وأزيد عنهما بأنني أرسم أسلوب الحياة لكلّ الناس.
أمّا البنات فما زالت هوايتهنّ المفضلة، لفّ شعورهنّ عليّ، وكأنّني عقلهنّ المفكر، زيادةً عن كوني أكتبُ أحلامهنّ البنتاشعورية “كما الحواس الخمس”، ومنذ ذلكَ الحين أصبحتُ قلمًا شاعرًا في غَزَل البنات.
ولا أنسى أنْ أذكر لكم قصة طريفة، فقد وقعتُ أسيرا يومًا ما في يد أحدِ الفلاسفة الشعراء، هو يظنُّ نفسه هكذا، على أيّة حال، وللحق أقول: لقد أتعبني ذلك الإنسان، فقد كتبتُ له الكثير ممّا أدى إلى انتهاء أجلي.
وقبل أن ينتهيَ عمري بقليل، كنتُ قد أوصيتُ عليهِ كلّ عائلتي من الأقلام الرصاصية والورق الأبيض والزجاج الشّفاف النقيّ. فقد لمستُ في ذاك الفيلسوف المتأمل نوعًا آخر من الكتابة والتعبير الذي تعلمتُ منه معاني الكلمات والحروف والأرقام بطريقة جديدة لأول مرة، ولكن ماذا يفيد ذلك، أكاد أظنُّ أنّ أفكاري أصبحتْ مَشاعًا لعامّة الناس.
المهم، ولكلّ أنواع الأقلام والأوراق، إنّني كنتُ أكتب وأمحو الكثير ممّا يمليه عليّ ذلك الفتى وكأنّني ضميره، إلاّ حينما أجدهُ يكتبُ شعرًا، أجدُني أكتبُ بلا توقف، أو تفكيرٍ، وكأنّني أنا الشّاعر وليس ذلك الفتى المتأنّق بذاته.
نعم أنا الذي كنتُ أكتبُ الشّعر، أنا قلم الرصاص، وباستطاعتي أن أكونَ قلمًا جيّدا لمن يسطرون، وأحيانا رصاصًا لمن يقتلون، لكنّي سعيدٌ كوني سأظلُّ فقط قلمًا أخطئُ، فأمحو، فأفكر، فأكتبُ أفضلَ ما عندي .
وأفضلُ ما أريد أن أكتبَ يوما ما، اسم تلك المادة السائلة الملونة التي يستحيلُ أن تُمحى حروفها، يسمونها “حبر”، فثلثيّ حروفها “حب”..
والمفارقة اﻷعجب، في علم اﻷحياء أنْ يكونَ لونيّْ تلك المادة اﻷكثرَ استخدامًا، هما “الأحمر”، وهو مليكُ اﻷلوان المعبّر عن الحب، والعاطفة الرومانسية، وأيضّا لونَ دمِ القلبِ الصحيّ المشبعِ باﻷكسجين.
“واﻷزرق”، وهو أمير اﻷلوان المعبر عن فلسفةِ قوة ونقاءِ الطبيعة، وأيضّا هو لون عروقِ دم القلبِ المُتعَب الخالي من اﻷكسجين، وكلاهُما لونُ دمٍ سالَ من القلب، فلا يُمحى، وعلى الرّغم من ذلك سيبقى ورقي ناصعَ البياض، كلونِ مُضغة القلب الطيبة كما يقولون.
وربما يكون إعادة ترتيب حروف الكلمة ذاتها كأحلامي:
“ما برِحَ منْ ربحَ حربًا في بحر رحبٍ من الحب أو الحبر” وكلاهُما غرق.
أو أستعيدَ واقعي المُلهم وأكتبَ اسمي المجرد: “قلم” بلا ورق أو زجاج.
تعليق واحد