الموت … ماذا لو.. جنازة رجل!
ماذا لو علمت بطريقة ما أن لديك أربعا وعشرين ساعة فقط لتعيشها، أربع وعشرون ساعة لن تتكرر مرة أخرى، ستفقد بعدها صفة الكائن لتتحول إلى كان..
ساعات ينتهي بعدها كل شيء ويتوقف الشهيق والزفير، يتوقف النبض، تُغلق العينان وينتهي ضخ القلب للدماء في مختلف أنحاء الجسد، تتعطل كل الوظائف الفيزيولوجية، تنخفض درجة الحرارة، ويميل لون جسدك إلى الزرقة…
ينتهي كل شيء، تنتهي الأحلام والإحباطات والآمال ويسقط جسدك خائرا غير قادر على الحركة مرة أخرى مهما كان سنك..
سواء أكنت شابا تعتقد أن الموت لا يطرق إلا باب من تخطى السبعين أو كنت كهلا تعتقد أنه لا زال لديك سنوات لا بأس بها لتعيشها أو كنت شابة فتية تخرجت للتو تحلم بتأسيس أسرة أو أما شابة لم تفكر في الموت إطلاقا لأن تواجد أولادها في حياتها منع عنها التفكير في شيء هكذا. هي أصلا لا تقدر على ترك أطفالها لأحد حتى لو كانت مشغولة جدا، هي تفكر في الحياة وفِي فلذات كبدها ومستقبلهم وكل ما يخصهم وما لا ينفعهم. لم تفكر في الموت قط.
الذكريات في حضرة الموت
ست وثمانون ألفا وأربع مائة ثانية لديك لتغلق إلى الأبد تلك العينين اللتين رأتا الجمال والقبح، ملايين الصور والوجوه والكثير من العيون والألوان والوجوه الكئيبة والسعيدة، صور وذكريات مبهمة من الطفولة، ذكرى الحب الأول والصديق الأول والفرحة الأولى والصدمة الأولى، صوت أمك ووجهها الجميل في كل حالاته، ظل أبيك في الممر قادما من العمل مساء، رسومك المتحركة المفضلة، مسلسك المفضل وفريقك المفضل.
ستترك مفاتيحك التي كنت تنساها دائما في مكان ما لتجدها بعد مدة أو تجدها أمك في اليوم نفسه، هاتفك الذكي الذي لم تكن تفارق حتى في الحمام، كتبك، خزانة ملابسك، جواربك اليتيمة، كتبك ومذكراتك، قميصك المفضل..
صور الناس الذين بصموا حياتك والتي قررت الاحتفاظ بها في محفظة نقودك الجلدية التي صبرت عليك أكثر من عدد كبير ممن التقيت، نقودك التي وفرت أيضا ستتركها وترحل، بطاقات رخصة السياقة والبنك والهوية والنادي الرياضي الذي تتدرب فيه لتحافظ على جسد سليم ورشيق.
تذاكر قطار قديمة جدا لم تعرف هل ترميها أم تحتفظ بها، ورقة مطبوع عليها أدعية، أخرى فيها سطور محيت لم تتذكر يوما هل كتبتها أنت أم وجدتها أم كتبها شخص آخر، بطاقات شخصية لأشخاص التقيتهم في ندوات ومحافل أعطوك إياها أو طلبتها منهم لتعاود الاتصال بهم مرة أخرى لكنك لم تتصل أبدا ولن تتصل.
خزانة أحذيتك كذلك، حذاؤك المفضل أيضا سيظل وحيدا، ربما لن يرتديه شخص بعدك، بذلتك المفضلة كذلك، معلقة في الخزانة ومغطاة بعناية فائقة كي لا يمسها الغبار.
تلك السترة التي أهملتها منذ مدة لو وضعت يدك في جيبها لوجدت النظارات الشمسية التي ضاعت منك مرة والتي ظننت أن فلانا قد سرقها منك. كنت ستجد نقودا في الجيب الثاني، كل ذلك كان فيها لو بحثت فقط لكنك لم تكن تريد ارتداءها بعد للأسف.
أشخاص ظلموك عن قصد وعن غير قصد، أشخاص ظلمتهم اعتذرت من بعضهم ولم يسعفك الحظ لتعتذر من البعض الآخر للأسف.
ذكرى الحب الأول الذي غير فيك الكثير والذي لم تبح به لأحد، ضحكاتك مع إخوتك وتدليل أمك لك وهي تلعب بخصيلات شعرك أثناء وضع رأسك على ركبتها، “سأزوجك ست البنات إن شاء الله يا وليدي…”..
لم تكن المسكينة تعرف أنك سترحل قبل ذلك، ستتحسر لأنك لم تترك لها ولدا تشم فيه رائحتك وتتراجع مستغفرة ربها لأن لا شيء أصعب من اليتم هي الثكلى التي فقدت قطعة من روحها بعدما يتمت قلبها ورحلت قبل الأوان.
كُتب لك الموت
لكن الأوان قد حل، كتبت لك الموت كما كتبت لك قبلها الحياة، كل شيء بأجل ولسبب، الله يعطي ويأخذ بحكمة لا يعلمها إلا هو، صعب جدا أن يستوعب والداك وإخوتك ومعارفك كلهم أنك قد رحلت هكذا دون مرض ولا معاناة، أن تنطفئ شمعتك هكذا بسرعة دون سابق إنذار لكن شيئا مبهما وحكيما لم نستطيع نحن البشر أن نفسره أو نفهمه، نحن قاصرون عن الفهم والاستيعاب، لا يمكن للناقص أن يشرح حكمة الكامل في رحيل شاب هكذا، تاركا جمرا خارقا وأسئلة كثيرة في نفس كل من عرفه.
سيصبر والدك قليلا، سيعانق كل المعزين في خيمة العزاء سيتمنى لو كان امرأة ليصرخ ويبكي دون أن يلومه أحد.
لم يكن يكلمك كثيرا، لم تخرجا لارتشاف فنجان قهوة قط، لم يكن الأب المثالي لكنه أفنى عمره لأجلك وجعلك ما أنت عليه.
كان يحبك حبا كبيرا بلا ضفاف لن يموت أبدا. سيحتاج أن ينزل الله عليه إيمانا وصبرا كثيرا كي يعيش.
ستبكي عليك أم زكرياء، جارتكم الراقدة في المشفى منذ مدة تتعالج باستماتة من السرطان والتي زرتها قبل وفاتك..
جدك المنهك الذي فقد من هو أعز من الولد، ولد الولد. هو كذلك سيحط رأسه على سجادة الصلاة ويبكي.
سيبكي عليك الكل حتى أولئك الذين لم تتخيل يوما أنهم سيفعلون، حتى الناس الذين لا يعرفونك سيبكونك وسيتحسرون على رحيلك إن أخبرهم صديق لك، زميلهم في العمل ربما أنه فقد صديقا شابا ونبيلا، ستبكيك أم أخرى في مدينة أخرى لأنها تخيلت نفسها في وضع والدتك لتتدفق عيناها بالدموع الحارقة.
سينعيك أصدقاؤك على حساب الفايسبوك، سيعلق آخرون على صورك وخصوصا الصورة التي وضعت منذ مدة قصيرة جدا، كنت تضحك فيها ملء شدقيك، لم تكن تعرف أنها آخر صورة ستضعها قبل موتك.
إنَّا لله وإنا إليه راجعون. سيدعو آخرون إلى شن حملة تبليغات كي يتم إغلاق حسابك أو حجبه كي تتوقف صورك عن الانتشار.
سيتغير الكثير بسبب موتك، سيأخذ البعض خلوة لمراجعة النفس ومحاولة تهذيبها لأن الدنيا فانية، سيباشر تاركو الصلاةِ الصلاةَ بعدما صلوا عليك الجنازة مباشرة، كلهم دون استثناء تخيلوا أنهم في مكانك ففَرّوا إلى الله خائفين من العدم ومن انعدام فرصة التوبة كي يغفر عنهم ذنوبهم ويعطيهم فرصة أخرى، منهم من سيستمر ومنهم من سينسى ويعود إلى النقطة التي بدأ منها. منهم من سيكتم صوته بالوسادة ويبكيك ليلا لساعات لأنك رحلت هكذا ولن تعود.
الرحيل مؤلم ولو كانت العودة مضمونة، فما بالك برحيل دون عودة؟
منهم من ستقفز دمعة من عينيه بعد سنين إن تذكرك أو سمع أغنية أو نكتة أو شيئا ذكره بك.
ستبكيك أيضا فتاة أحبتك بصدق وبصمت وحلمت أن تكون لك زوجة ولأطفالك أما، لكن الموت انتزعك. لكنها في كل الأحوال لم تكن لتعترف لك بشيء حتى لو ظللت على قيد الحياة.
سيبكي الجميع لأنهم ظنوا طيلة حياتهم أن الموت، ذلك الرهيب الغريب الغادر، لا يطرق إلا باب الآخرين الذين يعيشون بعيدا أو يسكنون في الحي الخلفي، كبار السن والمرضى، أولئك الغرباء الذين تتوقف حركة السير أثناء مرور موكب جنازاتهم أو أولئك الذين يعيشون في مناطق الحروب والكوارث، يموتون بالجملة ويدفنون بالجملة.
أنت لست سيّء الحظ مثلهم، على الأقل حظيت بجنازة ونعي مشرف.هذا ما سيقع في محيطك باقتضاب إن طرق الموت بابك، أما أنت فستتقبل غالبا الأمر بصدمة، ستظنها مزحة في بداية الأمر لكنك ستصدق بعدها..
ستفكر في كل تلك الأشياء التي لم تفعلها قبل اليوم، ستهرع إلى بيتك وتعانق أمك، من رحمها خرجت وإلى حضنها عدت الآن تبحث عن الأمان والحب.
ستعانق أباك وإخوتك وتطلب المسامحة منهم، تطلب المغفرة من الله بحرقة، ستود أن تتصل بكل الناس الذين صرخت لي وجههم يوما أو آذيتهم عن قصد أو عن غير قصد لتعتذر لهم لكن الوقت لن يسعفك، ستتذكر كل الذكريات الجميلة والأشخاص الذين مروا بحياتك.ِ
ستعود إلى حضن أمك ثانية وتظل لساعات، ستمتزج دموعكما، ستصلي وتبكي لأنك تعتقد أنك لم تفعل الكثير من الأشياء الجيدة خلال حياتك ولأنك تخاف كثيرا من العدم والظلام.
ستمر الساعات بسرعة. ستغلق هنا عينيك إلى الأبد.
سيغسلونك ويحملونك إلى المسجد لصلاة الجنازة مغبرين عيونهم حمراء من كثرة البكاء، لن تسمع صوت أحد.
جنازة رجل.. إنَّا لله وإنا إليه راجعون.
اتشرف برفع القبعة لك و لهذا المقال المهيب، لا تربت يداك ولا انطوى لك منبر
أتمنى أن تستمر في كتابتك فهي تبقي الشخص في اطمئنان وارتياح على شخص ثاني.
شكرا لوقتك الممنوح لأسطري..