مدونات الرأي

محبَّةٌ بالشرط والفِطرة

قلة الوعي وعدم الإدراك لطفلٍ صغير، هما أمران ليس بإمكانه التحوُّل عنهما بإرادته، يجدر بالسنوات الثمانية عشر الأولى أن تعطيه بضع خطوطٍ عريضة عن الأمر، كيفَ هي الحياة؟ ولماذا هو هنا بالتحديد؟ وهو في حين إجابته على هذه الأسئلة ومثلها مما يجُول في خاطره كل ليلةٍ بعد منتصف اللَّيل، إما أن يلزم القالب الذي وُضِع فيه أو يكسره.

لطالما كان أمر القوالب مُحيِّرًا بالنسبة لي، كنظرياتٍ أسيرةٍ في كتب التنمية البشرية، أو كتب تربية الأطفال، يكون الأمر بسيطًا جدًّا ببساطة كتابة مثل هذا الكلام على الورق، لكنه أبعد ما يكونُ عن التطبيق العملي في الحياة اليومية التي تختلف في طبيعتها من بلدٍ لآخر، ومن طبقةٍ اجتماعية لأخرى، ومن منزل لآخر، لكن في النهاية عليكَ أن تختار قالبًا تلزمه طيلة حياتك، وفي معظم الأحيان يتم اختياره لك دون أيّ استشارةٍ لشخصك، بعبارةٍ جاهليَّةٍ مكررة قد تومض في ذهنك الآن: “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”.

كطفلٍ صغير بجسدٍ غضّ، وعقلٍ اسفنجِيّ صغير، ما يلبث أن يكبر وتتّسع مداركه بمرور الوقت، يحرص أبواه على تربيته وتنشئته، ويعهدان إلى جعله أفضل منهما في المستقبل، لكن الأمور دائمًا ليست ببساطة الرغبة فيها، نحن جئنا إلى هذا العالم الكبير واللامحدود دون أي رغبةٍ منا في ذلك، دون علمٍ بما سوف يحدث، فقط قُدِّر لنا المجيء ومواجهة كل شيءٍ دون سابق تدريب، ومع ذلك فإننا نتحمل مسؤولية النتائج كاملةً.

يبدأ الصراع منذ السنين الثلاثة الأولى، حيث يُغدِق الوالدان الحُب على ملاكٍ صغير لم يتفوه بعد بكلمة “لا”، حبٌّ فِطري يولد في قلب المرء لفلذة كبده منذ الشعور الأول بوجوده المادي المجرد، وبالتدريج يتحول الأمر لحُبٍّ مشروط، مرهون بمدى طاعته وامتثاله لما يُوَجَّه إليه من أوامر، بترجمة لهذا الامتثال على أنه عين محبة الإنسان لوالديه وبره بهما، حتى ولو كان ذلك على حساب نفسه التي سيُسأل عنها لاحقًا، وهو قادرٌ على صنع الفروق بين الإخوة في البيت الواحد، وخلق جو من التنافس اللاّمحمود، وإشعال فتيلِ الغيرة إذا اشتدّ الأمر، يبدو الأمر تافهًا وصغيرًا في البداية، فعليه أن ينهي صحن غدائه حتى يحصل على بعض الحلوى الليلة، وعليه أن يحصل على الدرجة النهائية في امتحانه النهائي، وبذلك يحضرون له الدراجة التي كان يحلم بها، ولابد أن يلتحق بالكلية اللي يريدها الوالدان حتى يفخران به، وربما يتزوج بمَن يُملون بها عليه حتى ينال تمام الرضا، ولن يناله!، هكذا يُدخِل الوالدان طفلهما الصغير في سلسلةٍ من التنازلات الأبدية، يتحوَّل فيها الحب الفِطري لحُبٍّ مشروط، مُجهِدٌ ولعين-ولو جزئيًّا- يحتاج إلى العمل الشّاق حتى تصل إلى أدنى مستويات الرضا وعدم الشعور بالتخلي، لمجرد كونك “أنت” في حياة الآخرين، تذهب إلى القالب الذي تم اختياره لك وتنكمش فيه، بعد قص زوائد أجنحتك الصغيرة، وتحديد آفاق عقلك، وتشذيب أحلامك، حتى تلائم ذلك الحيِّز الذي لم يكن ليلائمك يومًا.

أشعرُ بالغبطة، وربما بقليلٍ من الحسد تجاه أولئك الذين لم يكنْ لهم يومًا رغبةً في الاختيار، تلائمهم كلّ القوالب التي تم اختيارها لهم، وهم بذلك على قدرٍ من السعادة في تلك الحياة، لا يمسهم شعور بالنقص، أو بالرغبة في التمرد وكسر القالب، هم ملائمون ومتلائمون، لديهم من التصالح مع النفس ومع الأمور ما يكفي لتقبُّل قياس القالب، والشروط اللازمة للحصول على الحبّ ورضا الآخرين، ويعملون جاهدين للاتساق معها، وهو ما يصطدم به المرء في كلّ مرة مهما أراد الهروب منه، فهو لابد وأن يحصل على قدرٍ من محبة ورضا الآخرين حتى يتسنَّى له العيش والشعور بالطبيعية بين الناس.

أحيانًا يكون التمرد وكسرُ القالب الذي لديك هو سبيلك الوحيد للحصول على نفسك، وهو ما قد يكونُ أسوأ شعورٍ في الكون أن تصل بك الأمور إلى هذا الحد، لكنه أيضًا أجمل شعورٍ قد يعصف بك حين تقوم بكسر قالبك على أكمل وجه، وتطمس الشروط الموجهة إليك للحصول على الدعم والحب، أو على الأقل لا تلتفت إليها ثانيةً، والموازنة في ذلك بالاكتفاء بالجزء الصغير الذي قد تحصل عليه من الحب الفطري، وهو أمر صعبٌ جدًّا على حد اعتقادي، لكن الوصفة متاحة دومًا، كل ما قد ينقصك يا صديقي هو الشجاعة، لأنك ستسيطر عليك الرغبة في التحطيم عاجلًا أم آجلًا.

إنّ المضمار الضيق الصغير الذي تضعنا عليه الحياة، ويصنعه لنا الوالدان بدورهما، ما يلبث أن يمتد ويتَّسع بمرور السنين، حتى نكاد نشعر بالضياع فيه، لنفقد أبجديات الوصول، ويصبح كل اختيار نقومٌ به ما هو إلاّ غطاء حفرة، قد يختلف عمقها وكيفية الخروج منها في كلّ مرة، ويصبح كلّ سقوطٍ عودةً لنقطة البداية، وكلّ انتصارٍ ما هو إلاّ خطوةً صغيرةً مهما بلغت نشوته، فهو حتمًا ليس النهاية، النهايات في حياتنا الدنيا بالطبع لا تأتي بهذا الشكل، تبدو الأمور من منظوري هنا في غرفتي الصغيرة، أنه كان يجب على الوالدين جعل الأمور أسهل في الثمانية عشرة سنة الأولى من عمر طفلهما، بحبهما الفطري، وتقبُّلهما الكامل لطفلهما الصغير بالرغم من أخطائه الكثيرة، وجعل المنزل بقعة آمنة له مهما بلغ الخطر خارجًا، فالعالم مُخيفٌ بالفِعل، وهو يحتاج إلى الكثير من الجهد للعيش فيه، والتعود عليه، والخوض في غماره، فلا ضير أبدًا من وجودِ محطةٍ صغيرة لبعض الوقت، يتوقف المرء عندها ليلتقطَ أنفاسه، ويخلع عنه ثوب خوفِه قليلًا، لينام.

أظهر المزيد

غيدا الصاوي

عالقة في كلية العلوم، أدرس الكيمياء في الجامعة، وأقرأ الفلسفة في غرفتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى