يقول مالك بن نبي فيلسوف الجزائر المطرود في محاضرة ألقاها لدى بيت الطلبة العرب يوم: 8/4/1961، يقول فيها: “.. فالقضية إذن ليست خاصة بالمجتمع الإسلامي، فهي في كل مجتمع تنحصر في فقدان الشروط التي تحقق التوتر في نشاطه وبعثه إلى أسمى الغايات..”؛ وهذا بالفعل ما يقع الآن في الجزائر، هذا البلد الذي يشهد له العدوّ قبل الصديق بأنّ له نساء ورجالا لو أرادوا بلوغ قمم الجبال لأتتهن وأتتهم زحفا وتذللا.
في أيّ مجتمع يكون هناك الكثير من التناقضات، بينما المجتمعات! فهي تختلف، وتحاور أفرادها عبر العادات المختلفة والثوابت المعروفة، وإنّ المجتمعات المتحركة هي أنجح المجتمعات على الإطلاق، لأنها تمنح فرصا “متكافئة” لكافة أفرادها، ووفق قواعد شريفة تُرسى في سبيل التنافس، تصبح كافة الأمور في كافة القضايا قيد التحليل والمراجعة، لتبني هذه العوامل مجتمعة فضاء يمكنه أن يجعل من طاقات أبناء المجتمع الواحد صفا واحدا يمكنه أن يتحدى ما يواجهُه من صعوبات، فلولا الدم الزكيّ لشهيدات وشهداء صادقين لما كان أنين مخاض العقول الجزائرية الخالصة قابلة للتحقّق على ميادين الحياة.
تقول إحدى مفتشات التربية في الجزائر: “فكما أنجبت هذه الأرض شهداء، أنجبت أيضا كفاءات تسهر على خدمتها..”؛ نعم يا سيّدتي، أنت محقة، لكن هذا لا يكفي، فعلى كلّ فرد من موقعه أن يصبح كفاءة، وأن يحقق ما تصبوا إليه همم شعب بقي مضطهدا رغم استقلاله، لأنّ الحرية ليست هي الاستقلال؛ وصناعة الفرد الحقيقي الخالص وفق “قواعد” جزائرية منحوتة من عمق الثقافة الجزائرية المميّزة، ليس أمرا هيّنا على الإطلاق، وهي ليست مهمة قابلة للتحقيق من طرف جماعة أو فرد لوحدها أو وحده، وإنما هي مهمة المجتمع الجزائري ككل، وهذا لا يتفق وللأسف مع ما يحدث اليوم على أرض الجزائر، لأن الجزائريين اليوم تمكنوا من صناعة البلاد ولم يصنعوا سكان البلاد، وعليه وبشكل استعجالي أن يصنعوا روحا جزائرية مميزة طوعا، وأن يكوّنوا “مواطنين” تربط بينهم قوانين تطبق على الجميع بلا استثناء، فالقانون هو الحامي الوحيد للأفراد بعيدا عن تعصّب الدين ومغالاة القبيلة.
لن تقوم للجزائر أية قائمة إن أبقت القانون بعيدا عن روح التعامل البسيط لدى المواطن البسيط، ولن يقوم المجتمع بدوره إن لم يشعر في صميم الضمير الجماعي النابع من عمقه بأنه محروم من الكرامة بحرمان نفسه من احترام العلاقات، التي تقوم بين أفراده عبر تنظيم قانوني يسود على الكلّ، فضريبة الوفاء أغلى من أن يتمكن أيّ فرد من تصوّرها، والظلم هو خراب الأمم، لأنّ العدل هو أساس الملك والبقاء؛ لقد نجح الجزائريون في إقامة دولة لربما كما جاء على لسان الرئيس هواري بومدين لا تزول بزوال الأفراد والحكومات، وهذا من نجاحاتها، لكنها فشلت إلى اليوم في صناعة أمة مميّزة تقوم على خصائص تخصها هي وحدها دون غيرها من الأمم.
يحتاج الجزائري اليوم على حسب اعتقادي إلى إبراز موهبته في رسم التاريخ وإعادة إنتاجه، فالأبطال لن يصبحوا كذلك بالوراثة، وكفاهم شرفا بأنّ أجدادهم كانوا أبطالا حقيقيين، لكن على الأحفاد أن ينحتوا بطولاتهم الخاصة أيضا، الطبيب بطل عندما يعالج ويحارب الأمراض، والمعلّم بطل أيضا عندما يحارب الجهل، والعامل بطل عندما يحارب البطالة والخمول، فبدل أن نعيد إنتاج الشعارات، هيا بنا نقبل على العمل والإنتاج.
لم ننجح كجزائريين في صناعة فرد جزائريّ مميز، فالمغربي مميّز والتونسي مميّز أيضا والموريتاني واضح المعالم، بينما الجزائري بإمكانه أن يكون تونسي صباحا ومغربي مساء وحتى أميركي ليلا لكنه فشل كل الفشل في أن يكون جزائريا ليوم وليلة، لذى المهمة صعبة للغاية أمام الجزائر ولكنها ليست مستحيلة على أحفاد النساء والرجال.. والأيام بيننا.