وفيك انطوى العالم الأكبر‎

تسرّبت من نوافذنا المُظلمة بريقٌ من الأمل إلى بيوتٍ مفتوحة النوافذ على جميع الاحتمالات الجميلة، فابتسمنا جذلا. 

عن الروائي أيمن العتوم الذي يُخبرنا من خلال رواياته الحقيقة الواقعية التي لا يخلوا الخيال فيها أبدا، بأن الإنسان هو مركز الأرض. فعزف لنا في رواياته الحزينة المثخنة بالأمل، أملا ترنّمت له الكهلة كما يُطربها اللّحن الجميل. وأخرجت من طيّاتها طربها الذي ختم عليه المرح المفقود فكنا نخال أنفسنا، “أننا جرم صغير، لكن فينا انطوى العالم الأكبر”.

كيف نقرأ إذاًُ روايات أيمن العتوم من جانب البشرية جمعاء؟ وهل أن خلاص ذواتنا المقيّد محررٌ في رواياته؟ وهل أن روايات أيمن العتوم مفردة في صيغة الجمع؟.

نحن نعلم أن الإنسان متناقض بطبعه على جميع الأصعدة، يميل ميل غصن الشجرة بعد كل اهتزاز. الإنسان الذي يعانق صغب الحياة وتعثراتها دون ضجر ليصل إلى الموت سالما. يقول أيمن العتوم “نحن نحيا ونتجدد بأحلامنا فإذا تخلينا عنها فقد سمحنا للموت أن يعبث بنا” فكيف عبر لنا عن هذا الإنسان المتناقض الذي يتجدد بأحلامه مع تجدد واقعه في لوعة الواقع المرير الذي يمر به هذا الإنسان في حد ذاته؟.

لنبدأ برواية “نفر من الجن” التي تناولت عدة قضايا لعل من أهمها تقديس الأرض والصراع الحضاري واحتكاك الإنسان بأخيه الإنسان؛ فقد حاول أيمن العتوم طرح السلام بدلا من العداء وهي قراءة أيضا في محاولة  فهم الآخر الذي كان رمز الجن ذاته. وهنا نستطيع أن نقول بأن أيمن العتوم ذهب إلى ما هو أبعد وهو التحليل الفلسفي. لم يتناول أيمن العتوم المفهوم الأدبي في رواية “نفر من الجن” من الناحية التقليدية فقط، فليس “الجن” هو الكائن المُخيف الذي يظهر في الغرف المغلقة والأماكن المظلمة. وإنما هو أيضا رمز للثورة التقنية التي يخوضها العالم المعاصر بكل ما فيه من سلبيات تجاوزت الإيجابيات فالإنسان هو الفاعل والمفعول به.

لقد خرجت الرواية من الطابع الأسطوري إلى الخط الفاصل بين عالم الإنسان ثم إلى بطل للأحداث نفسها في رواية كانت مثيرة وتقليدية تذكرنا بشمس المعارف الكبرى والصغرى. لكنها طرحت التغيرات الكبرى التي طرأت على الإنسان من داخل ذاته والبحث عن الكينونة وكيف ستكون نهاية العالم بين الإنس والجن.

إن هذه الرواية أيضا تصف لنا النّهايات الكُبرَى وتعتمد بدورها مرجعيّات دينيّة وهذا ما أثبت مصداقيتها وجردها من الخيال نسبيا. وما يميزها أنها ليست مقيدة بإطار زمكاني وتكشف لنا إرادة الإنسان المُتذبذبة التي تحارب قوى الشر وتقبل الأخر. إنها رواية تمتد ببعد فلسفي، سياسي وديني لا أدبي شبه خيالي فقط.

فمن الناحية الفلسفية لهذه الرواية قد تبين لنا طرح العتوم لي “إتيكا فن الوجود” فهو حدد لنا سلوكيات الإنسان مع الأخر وتقبله له أي تقبل الجن. وهذا ما يرتبط بفهم الإنسان للعوالم الأخرى وتحديدا ذاته بما أن الذات مشدودة إلى الآخر لتبقى على توازنها والابتعاد عن مركزيتها والالتقاء بالآخر والانخراط الدائم في معركة الغربة والاغتراب عن الذات والالتجاء تحت سقف الآخر. إن “الجن” في رواية العتوم من الناحية الفلسفية هو الوساطة التي تحرك الذات الإنسانية من نفسه لنفسه والانطلاق نحو العالم وما يحتويه. فلم يعد هذا الأخير وساطة معرفية وأدائية للاغتراب عن النفس بما أنه هنالك عنصر مساعد هو “الجن”.

ولكي لا نطول الشرح فإن الجانب الفلسفي في رواية “نفر من الجن” تكشف لنا العلاقات الإنسانية التي تحمل تراث الفردانية ليزود الإنسان المعاصر بخبرات من خلال تقبله للأشياء في مجال عرف باحتيال الفرد ودهائه من أجل الفوز مجددا بالحياة المختلفة عن الفرد. فنحن لا نتحدث عن فرد واحد بل عن بشرية جمعاء.

أما بالنسبة للناحية السياسية للرواية فقد برزت فيها نشوء حضارات في مناطق لم تكن مأهولة من قبل وانكسار حضارات أخرى يعني فرض حضارة على حضارة أخرى إما بالقوى أو بطرق أخرى وهنا نسطيع تسميتها بمعركة الحضارات. لعلّ ما أراد أن يقدّمه “أيمن العتوم” من خلال هذه الرواية أن الأساطير مهمى اختلفت فإنها تُعيد نفسها بشكل أو بآخر.

ما ميّز رواية “نفر من الجن”، هو أنها تكشفُ لنا قدرة “الإنس” على مقاومة قوى الظلام والشر وتوضح الرواية القدرات الخاصة “للجن” وكيف ساعدوا البشر بهذه القدرات في الماضي وكيف يفسدون في الأرض أيضا. فإن قوى “الجن” تسيطر على العالم وتضع البشر لخدمة القوى الظالمة، إنها مرحلة مناسبة لصناعة الطاغية والمستبد. إلا أن “الجن” أيضا يستطعون من خلال هذه القدرات الخارقة مساعدة الإنسان على تجاوز الصّعوبات، حسب الرواية نجد مثلا يذوب القطب الشمالي فجأة، فينقل الجن الكتل الثلجية إلى أماكن البشر، وتظل هناك محاولات مستمرة لإنقاذ الأرض من الغرق أو الجفاف.

إن هذه الرواية قريبة في مضمونها إلى الأساطير والخرافة وهي ضرب من ضروب الخيال، إلا أنها أيضا تحمل لنا منحى أخر في مضمونها فتبرز لنا أهمية الأرض بالنسبة للإنسان وحرصه الشديد على كل ما فيها في محاولة لفهم الأخر الذي قد يرمز إلى “الجن” إليه.

“نفر من الجن” هي رواية تحمل في طيّاتها إحدى جوانب الروائي “أيمن العتوم”، لكن لا نستطيع تحديدها أين؟ وتحمل أيضا أهم الجوانب التي يعيشها الإنسان في حياته. فهل أن مأسات الإنسان الحقيقية في نظر أيمن العتوم برزت في رواية “يسمعون حسيسها؟”. “ليس من أجلنا نحن الذين خرجنا أحياء من تلك المقابر. بل من أجل الذين قضوا شهداء وهم بعشرات الألوف، إن لم تكن بالمئات”.

هكذا عبر لنا الروائي “أيمن العتوم”، الذي يُذكرنا أن لا مساحة للمخيلة في الرواية، فهي حقيقة. إننا أمام رواية أقل ما يُقال عليها مأسات ملموسة.

“يسمعون حسيسها” تتحسس من يعيش فيها وتصف جحيمها المدقع ولربما تلسعك نيرانُها فهي لا تصوغ شهادة الطبيب “إياد سعد” (السارد)، وليست رواية تحثُك لتقارب حجم المأساة، بقدر ما هي رواية تجعل تفكيرك ينتحر شنقا من هول المشهد. ولأنها تخاطب ملكة الوعي فينا من الجانب الإنساني فهي تفسح المجال أن نعيش مع شهادة حيّة وأدب لا يخدش الواقع الشحيح بل هي إشارة أولى للسارد بأن يجعلنا نصدق بصدق ما عاشه.

يقول الطبيب “أشار المحقق للجلادين، أحنى أحدهم ظهر السجين وعراه تماما، وأمسك اثنان برجليه وثبتهما جيدا، وجاء الرابع ليستلم الخازوق من المحقق، وضعه في دبر السجين وراح يضغط ببطء، ارتفعت صرخة السجين وراح جسده ينتفض وتابع الجلاد إدخال الخازوق، صار الخازوق المُميت في جزئه الخشن داخل دبر السجين فعلت صرخاته واستغاثته حتى بلغت عنان السماء، شعر الجلاد بالانتشاء، علا الصياح أكثر، صار يسترحم. دفع الجلاد الخازوق بكل ما يملكه من قوة وارتفعت صرخة التقاط ملك الموت من فم السجين، خار السجين وهو ينطفئ بسرعة، ثم أسلم الذبيح روحه إلى بارئها”.

هذه اللوحة التي تلخص أكثر العذاب شنعة على الإطلاق. فمن الناحية النفسية فإن المُتعذب هنا كان في حالة هستيريا حادة مع ألم شديد عبر عنه الصراخ وانتشاء الجرذان من هذا الموقف. إن هذا النوع من العذاب هو مسٌ للكرامة وخدشها خدش بالغ؛ صعب أن يمر عليه الإنسان كأنه حادث عادي. مشهد أو بالأحرى شهادة تمس الإنسان وتدفعه أن يصرخ من ظلم الحياة فما بالك بالروائي كيف تقبل هذه الشهادة؟.

إن هذه الرواية هي بقعة الضّوء في آخر النفق (الحقيقة الكاملة) للمعانات التي يتعرض لها السورييين.

سبعة عشرة سنة قضاها “الطبيب” مع كثير من رفاقه في المعتقل بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين، كان قد قضى شطر حياته الأولى يرضي والده ليصبح طبيبا وترك وراءه ابنة وطفلا كبر وأصبح مؤذنا. إن رواية “يسمعون حسيسها”، هي رواية جسّدت لنا هول ما يحصل في السجون السورية. وقد وصفت هذه الرواية حالات الرعب والهَذَيان والموت والجحيم والجنون الذي مر على السجين (السارد) مع أكثر من شخص في المعتقل.

إن هذه الرواية تخاطب فينا الإنسانية، تمس أعماق النّفس البشريّة وتجعلنا نقف حيارا بين الشك واليقين بين الصمود والانهيار وتذكرنا برواية الجريمة والعقاب لـ”دوستويفسكي” بالرغم من أن لكل منهم آلامه الخاصة. لكن تعددت الآلام والسبب واحد “البشرية المعذبة”. ها نحن من جديد أمام رواية تحدثنا عن آلامنا بطريقة أخرى لكن تجعلنا نبحث عن هل أن أيمن العتوم مفردة في صيغة الجمع؟.

“الوطن ليس جغرافيا، إنه قيمة الحب والكرامة والفِداء..”

خرج أيمن العتوم هذه المرة عن ضغط الورقة، “حديث الجنود”، حقيقة أم أسطورة من خيال الكاتب كما عوّدنا الروائي أيمن العتوم ليجذبنا مثل كل مرة لنعيش إما في خيال الحقيقة أو المتناقضات.

“حديث الجنود” الرواية التي منعتها السلطات الأردنية من توزيعها وتداول الطّبعة الثانية من الرواية إلى حين صدور حكم قضائي بشأنها من قبل محكمة مختصة بقضايا المطبوعات.

إذا فإن الرواية ليست أسطورة إنها توثيق للأحداث التي حصلت في جامعة اليرموك. الشيء الذي حذا بالسلطات الأردنية بالتحرك فورا ضد هذه الرواية وضد أيمن العتوم. لقد تناولت الرواية أحداث اقتحام قوات الأمن الأردنية جامعة اليرموك سنة 1986 بعد احتجاجات طلابية غير مسبوقة في الجامعة، حيث سلط الكاتب في روايته الضوء على أسباب تلك الاحتجاجات ومآلاتها في ظل الأحكام العرفية التي كانت مطبقة في الأردن في ذلك الوقت. اعتصم الطلاب من أجل إلغاء الرسوم أو تخفيضها فخفضت الدولة عدد ساكنيها. نحن حين نقرأ رواية توثق تفاصيل مهمة سواء فساد أو حرب أو فقر نغض النظر على الرواية ونعيش التفاصيل من جانب نفسي ونتحمس فقد اندمجت الأحاسيس قبل العقل..

فحديث الجنود أيضا اعترافات تأخر نشرها بسبب وهن وضعف دب في قلب البطل لذلك أول انطباع يؤخذ عن الرواية أن أحاسيسنا تصاب بخيبة أمام البطل. لا يغنيك الكثير من التفاصيل في الرواية وستعبرها ذاك العبور الخاطف حتى تصل إلى نقطة الحب حينما يأتي الحديث عن “نعيمة” (نعيمة زوجة الطيار الأردني شريف، الذي كلما علا في السماء سقط قلب نعيمة في الأرض).

نعيمة الأنثى التي اجتمعت فيها كل أنواع الإخلاص والحب. هنا لماذا لم يجمع أيمن العتوم بين الثورة والحب؟ إن الثورة تلخصت في أحداث الجامعة بينما كان الحب في نعيمة رغم انعدام التطرق لهذا الجانب. فالحب والثورة وجهان لعملة واحدة. والسؤال المهم هل استفادت الأجيال من رواية أيمن العتوم؟ هل هناك علاقة بين أحداث اليرموك باعتصام رابعة؟

إذا أردت أن تصنع ثورة ووصل بك الأمر إلى أن تعلم أنك ميت لا محالة، فعليك أن تجهز نفسك للموت واقفا وأن تجهز من بعد لأخذ الحق. فهل أن أيمن العتوم من خلال هذه الرواية جهز الأجيال القادمة للانتفاضة من أجل الحق؟.

قتل بعض شباب وفتيات اليرموك، أُعتقل آخرون وجرح آخرون. انتهى أشخاص منهم بحمل إعاقات دائمة جسدية أو نفسية، إذا إننا نأكد أننا نحكم على الروايات بناء على صدماتنا وحالتنا النفسية. أحببت نعيمة وأجزم أن الأغلبية أحب نعيمة ولعن أخاها وورد. ربما لأنهم تركوا رمز الحب (نعيمة) لتموت.

لقد أراد الروائي أيمن العتوم من الجانب الإنساني هو إيصال فكرة أنه لا تكن نفسك فقط، بل اسمح لنفسك أن تكون غيرك في غالب الأوقات، فربما تعجز أنت ليأتي من ينتشلك وهكذا نستطيع أن نكمل المسيرة، مسيرة النضال والثورة.

إن أيمن العتوم بدأ رواياته برجل الخيال وتوسطها برجل التوثيق مع الشهادات الحية ولا أدري كيف سيختم رواياته؟.

أيمن العتوم التي خلت رواياته من الحب وخلت أيضا من شخصه فلا ندري ما معاناته وأين شخصيته في رواياته؟. أيمن العتوم الذي لم يكن ذاك المفردة في صيغة الجمع، لكن أكد لنا أن الإنسان انطوى فيه العالم الأكبر.

نأمل أن تجتمع في رواياته القادمة الحب والحرب، شخصيته المفقودة لكي نحس أن هنالك روائي ينضم لنا الأسطر بطريقة بعيدة عن الخيال بقدر ما تعج بالحقيقة الكاملة لنفهم صدق العالم الذي نعيشه. أيمن العتوم بصمة الأمل جمعاء.