قصة مي، من الوجهة النقدية، مليئة باليقينيات غير المدروسة. ولا أحد من النقاد العرب، في حدود ما أعرف، أعاد النظر في فرضية الحب العذري بين مي وجبران خليل جبران؟ الكل يفتخر بأن هذا الحب دام عشرين سنة، بدون أن يلتقيا. وكأن الحب المثالي هو الحب المأساوي، مع أن قراءة بسيطة لهذه المراسلات ستضعنا أمام أسئلة كثيرة، منها حجم الرسائل على مدار عشرين سنة من العشق؟ بالمقارنة مع المدة الزمنية. عشرون رسالة على مدار عشرين سنة؟ كانت مي تبحث عن الأمان الذي افتقدته نهائيا في محيطها البعيد والقريب.
لم يبق لها إلا حبها الأول (مع ابن عمها الدكتور جوزيف زيادة)، في فترة المراهقة، الذي لم يعد كما كانت تتصوره أو تقوله الرسائل بينهما. الحب الأول قسوة لأن الانفصال فيه صعب، إذ يظل اللحظة الطفولية الأنقى والأكثر عفوية. لهذا كان توكيلها جوزيف عند الباشكاتب للقيام بكل الإجراءات القانونية للبيع والشراء والتصرف في أموالها في مكانها، لا يخضع لأي منطق عقلاني، ولا يمكن فهمه إلا داخل هذا المدار.
مي ذكية ولم تكن حالة الكآبة تمنعها من رؤية الحقيقة، لكن الأمان، ثم الثقة المطلقة بعين طفولية، انطفأت منذ أن اختار جوزيف امرأة غيرها كشريك له في حياته، هو ما قادها نحو حالة كبيرة من اليأس التي ستكون لاحقاً واحداً من أسباب انهيارها ومأساتها.
للتذكير أن مي كانت قد أحبت ابن عمها جوزيف زيادة وارتبطت به بقوة. تزوج مع فرنسية بعد انتقاله إلى باريس لمواصلة دراسته في الطب. كانت الصدمة قوية جداً وقاتلة. وكان على والدها إن يرحل بها إلى مصر برفقة عائلته لينسي ابنته خيبتها التي كسرت في داخلها أشياء كثيرة.
ودخلت الحياة العامة والفكر والكتابة لتظهر لنفسها أنها امرأة كاملة وذكية ومرغوب فيها. كتبت ديوانها الأول ونشرته في مصر، في 1911 «أزاهير حلم» بالفرنسية. الكتابة بلغة الآخر، من الناحية الرمزية، هي التعبير بشيفرة لا يفهمها كل الناس وهو ما يجعل المسألة أكثر التباساً.
هناك رغبة للتخفي لقول داخلها الجريح. وقالت في الديوان حزنها وجرحها وإخفاقها مع إبن عمها. التعمية المقصودة لحفظ السر، ليست فقط في اللغة، ولكن أيضاً في الاسم المستعار للكتابة ISIS COPIA للتمكن من التخفي أكثر حتى تستطيع مي أن تحكي بحرية كاملة ما تريده، وهو ما حدث. لم يعرف الناس اسمها الحقيقي إلا لاحقاً.
ثم كان الصالون وسيلتها لإثبات وجودها كامرأة قوية الشخصية، وكسر قيد الخيبة الذي كاد أن يدخلها في دوامة اليأس. وكما يقول بعض النظريات النفسية إن كل ما لا يجد تصريفه في لحظة، يظل مترسباً في الأعماق، ليظهر بشكل أعنف عندما يصاب الجسد بالهوان والتعب، وتتضاءل إرادته، وتزداد هشاشته، ويصبح عرضة لكل الكسورات.
رأت في حبها الأول منجاتها. فطلبت من إبن عمها جوزيف أن ينقذها من حزنها وصمتها وعزلتها. فكان حسه الانتقامي من نجاحها وأنوثتها يتلخص في إعادتها إلى حالة من التبعية التي ألغت كل تاريخها الثقافي وحولتها إلى عالة اجتماعية.
بعد أن جردها من مالها ومن كل ميراثها إذ كانت وحيدة والديها، أدخلها الى العصفورية التي ليست فقط سجناً، ولكن أكثر السبل الانتقامية قسوة. عقاب لذلك العقل الحر والحي بسحبه من المشهد وتعويضه بجنون افتراضي يرى فيه الإنسان نفسه وهو يموت في كل ثانية، في مشهد تراجيدي لا يستطيع أحد تغييره.
الجنون هو انتقام فعلي من العقل الحر لمي، الذي كان عليه، وفق منطق الذكورة البائسة، أن لا يتخطى الحدود التي وضعت له وأن لا يفتح الأبواب الممنوعة. المشكلة أن مي لم تسمع حتى لخوفها الباطني. الحديث عن جنون مي يجب أن يدخل هذه العناصر في سياقه التحليلي، وإلا لن نفهم مراميه مطلقاً. صحيح أن فقدان الذين تعزهم، أبوها، أمها، وجبران، بشكل متتابع أضر بتوازنها العقلي، لكنه لا يفسر أبداً الخيارات التي دفعت بجوزيف إلى الزج بها إلى العصفورية.
لهذا أتساءل أحياناً عن فكرة التركيز على الحب المثالي بينها وبين جبران لم يكن إلا الشجرة التي غطت كل شيء. على رأس ذلك أزمتها النفسية الكبيرة، وآلامها من الخيبة القاسية. وجود جبران في حياتها العاطفية ولو من بعيد، غطى على المأساة ولم يحفظ لنا إلا سعادة حب افتراضي. أكثر من ذلك، كان الشجرة التي أخفت مأساة مي. كلما ذكرنا مي حضرت المثالية الرومانسية التي لم تكن إلا في رأس من أحبوها من قراء ومثقفين، بينما كانت هي جد مقهورة.
من هنا لا أعتقد أن عودة مي إلى ابن عمها من خلال الرسالة المعروفة، هو عجز استقلالي بقدر ما هو حالة الحاجة والمشترك والتبادل. فقد عاشت دائماً باستقلالية في حياتها الثقافية والفكرية، واستغلت الكثير من لحظاتها العشقية مع العقاد، وربما مع غيره، مما ألغى كلياً فكرة الحب المقدس مع جبران. لم تكن مي زيادة أحادية الهوى.
لحظة الهشاشة، والعزلة الروحية، نحتاج إلى من نشركه في مأساتنا للتخفيف من ثقلها. وستدرك بسرعة، بعد شهرين في بيت جوزيف، أن كل شيء فيها يقودها إلى الجنون، فتطلب أن تعاد إلى القاهرة ويظل جوزيف يكذب عليها ويؤخر عودتها حتى هيأ لها الموت الرمزي والحجز النهائي حتى الموت كما حدث للنحاتة العالمية كامي كلوديل، التي انتهت في بيت المجانين، والكاتبة الأمريكية، زيلدا، زوجة الكاتب فيتزجيرالد سكوت، التي انتهت هناك في حريق مهول، في مصحة عقلية. الظاهرة ليست خاصة بالثقافة العربية ولكنها عالمية.