تُعتبرُ المعتزلة أحد أهم الفِرق الكلامية التي عرفها الفكر الإسلامي، وقد ظهرت مع واصل بن عطاء (748 -700)، بعد أنْ وقعَ خلافٌ كبير بينهُ وبين أستاذه حسن البصري في بغداد، وقد ارتكزَ هذا الخِلاف بالأساس حول مُرتكِب الكبيرة.
إذْ اعتبرهُ حسن البصري منافق، في حين أنَّ “واصل بن عطاء” اعتبرهُ في منزلة بينَ المنزلتين، بمعنى أنَّ مرتكِب الكبيرة ليس بمؤمن أو كافر.
اعتمدَ المعتزلة على العقل كمنطلق أساسي في مناقشة وتحليل القضايا والنظريات، ولعلَّ أبرز نظرية تطرقوا إليها هي النظرية الذرية.
تُبين النظرية الذرية مدى انفتاح المعتزلة على الفِكر الإغريقي، كما تُبينُ إلى أيّ حد كانوا مُنفتحين على العلوم الطبيعية عند الإغريق بحيث استطاعوا اقتباس هذه النظرية من بيئتها الخِصبة، وقاموا بتكييفها وِفقَ مُتطلَّبات واحتياجات علم الكلام العربي.
فهذه النظرية الذرية تكشِفُ جزء من الحضور المادي في فِكر المعتزلة.
لماذا اختارَ المعتزلة النظرية الذرية؟
لقد اختارَ المعتزلة هذه النظرية للإجابةِ عن إشكالية الصفات هي عين الذات، وحاولوا من خِلال هذه النظرية تقديم أجوبة لثلاث إشكالات:
– القدم.
– العِلم.
– الإرادة.
1- الله بصفتهِ قديماً لا يجبُ أنْ يتعلَّق به أيُّ عَرَضْ، أو كلُّ ما هو محددٌ بزمان أو مَكان.
2- كيف يمكنُ أنْ يعلم الله بمُتغيرات هذا العالم؟ كيف يُمكننا أنْ نقول أنَّ ما يجري في هذا العالم يعلمهُ الله؟
3- يُمكننا القَول أنَّ الله في الفِكر الاعتزالي هو المُحرِّك الذي لا يتحرِّك، بمعنى آخر، يُغيّر ولا يَتغيّر.
هذه الإشكاليات جعلت المعتزلة أقرب إلى النظرية الذرية من أجلِ تقديم حل لإشكالية صُدور الواحِد عن المُتعدد.
هذه الإشكاليات جعلت المعتزلة أقرب بشكل كبير إلى النظرية الذرية، واعتبروا المعتزلة أنَّ الذرة هي المُنطلق الذي يتشكَّلُ ويَنْحَلُّ بمقتضاه الكون، كما أكدوا على أنَّ الحركة في ارتباط دائم بالمَادة وهذه الأخيرة في نظر المعتزلة هي نتاجٌ تقليدي.
إنَّ حركة الذرات هي أساسُ الكون والفساد، فالكون هو الانتقال من اللاَّوجود إلى الوجود بمعنى (التكون)، أمَّا الفساد فهو الانتقالُ من الوجود إلى اللاَّوجود.
وقد نتج عن الكون والفساد أمران عند المعتزلة:
– أصبحنا أمامَ عالمٍ طبيعيٍّ قائمٍ بذاتهِ.
– إننا أمامَ صيغةِ حلٍّ ميتافيزيقيٍّ ولاهوتي يَبدو مُقْنِعاً من أجلِ صدورِ المُتعدد عن الواحد، ولشمولية معرفة الله.
في خضمِّ هذه النظرية الشائكة، نشب خلافٌ كبير بين “أبو هُذيل العلاَّف” و “إبراهيم النظَّام”.
“العَلاَّف” اعتبر أنَّ الذرات تنقسمُ إلى جُزءٍ لا يتجزأ لأنَّ وجود الجزء الذي لا يَتجزأ يعني أنَّ المادة مُتناهية ومُحدثة، وهذا يفيدُ بأنَّ المَادة ليست قديمة أو أزلية.
نظرية “العَلاَّف” صارَت في إطار النظرية المِثالية، ومبدأُ التَغيُّر عندهُ هو ما يُتبثُ القُدرة الأزلية التي تَشملُ العالم المُتناهي.
في حين نجد “إبراهيم النَظَّام” يرى أنَّ الجزء يمكنُ أنْ يتجزأ إلى ما لا نهاية. وفي هذا الصدد يقولُ “النظَّام”: “لا جُزءَ إلاَّ ولهُ جزء، ولا بعضَ إلاَّ ولهُ بعضْ، ولا نِصفَ إلاَّ ولهُ نِصف، إنَّ الجزء جائزٌ تجزئتهُ أبداً ولا غايةَ له من بابِ التجزؤ”. هذه القولة يُقِرُّ فيها “النَظَّام” على أنَّ المادة قديمة، عكس نقيضهِ “العَلاَّف” الذي يرى أنَّ المادة ليست قديمة بل مُتناهية.
يقولُ إبراهيم النَظَّام: “أفعالُ العِبادِ كلُّها حركاتٌ فحسب، والسكونُ حركةُ اعتماد”.
نجد أنَّ “النَظَّام” يؤكدُ على أنَّ السكون مُمتنع وكلُّ شيء مُتحرك حتى لو بدا لنا ساكناً. العالم في نظرهِ هو عالمُ الحركة وليس عالمُ السكون. يقول “النظَّام” أيضاً: ” لا أدري ما السُّكون، إلاَّ أنْ يكونَ الشيءُ في المكانِ مرتين”.
المعتزلة أقرب إلى الفلسفة
لقد بيَّنت النظرية النظرية مدى انفتاح الفِكر الاعتزالي على حضارات أخرى، وهذا ما جعلَ المعتزلة أقرب إلى الفلسفة.
كيف لا والعقل هو المنطلق الأساس في فكرهم، ومما لا نزاعَ فيه أن الفِكر الإسلامي ازدهر قبلَ مجيئ “الكندي”، لأنَّ “واصل بن عطاء” هو أول من بدأ بالتفكير خارجَ العقيدة والمذهب، عكس “الكندي” وفلاسفة الإسلام الذي انحصروا كثيراً داخل دوامة الحكمة والفقه والشريعة.
فما أحوجنا للفكر الاعتزالي في الوقت الراهن، للخروجِ من هذا النفق المُظلم الذي تغيبُ فيهِ المَعارف الموضوعية والفلسفية.