يعتبرُ علم الاجتماع أحد أهم العلوم الضرورية في عصرِنا، كما يُعدُّ علم الاجتماع علماً قائماً بذاته ومستقلاً عن باقي العلوم، وهو علمٌ يدرسُ الظواهر الاجتماعية المتفشية في مجتمعٍ ما.
إلاَّ أنَّ المؤسس الفعلي لهذا العلم أثارَ جدلاً واسعاً في الوقت الراهن بين تيارين.
تيارٌ اعتبر أن أوغست كونت هو المؤسس الفعلي لهذا العلم.
وتيارٌ آخر يقول بأنَّ عبد الرحمن ابن خلدون هو المؤسس لعلم الاجتماع.
ومن هذا المنظور يمكنُ طرح الإشكالات الآتية:
هل يمكنُ الحسم في جدلية تأسيس علم الاجتماع؟
وإذا تَمَّ الحسم فيها فمن هو المؤسس الفعلي لـ علم الاجتماع؟
إنَّ علم الاجتماع الإنساني مسألةٌ يمكنُ اعتبارها مسألة اجتماعية لكونِ علم الاجتماع يهتمُّ ويدرسُ المجتمع من النَّاحية الاجتماعية أي يدرس الاجتماعي الإنساني، إلاَّ أنَّ السؤال الشائك والمطروح في هذا السياق يبقى معلقاً حول مسألة التأسيس بين المؤرخ عبد الرحمن ابن خلدون والفرنسي أوغست كونت.
ابن خلدون ونظرته إلى علم الاجتماع
وفي خِضَمِّ محاولتِنا للإجابة عن هذا السؤال الشائك والمعلَّق من طرف عدَّة دراسات، سنعودُ إلى التاريخ مع عبد الرحمن ابن خلدون حيث يُعتبرُ هذا الأخير هو أول من كانت له نظرةٌ أسبق حول الاجتماع والحياة الاجتماعية بصفةٍ عامة.
إنَّ هذه النظرة الخلدونية القديمة يمكنُ حصرها في الحياة العُمرانية أنذاك أي في عصر ابن خلدون.
وبالرجوع إلى مقدمتهِ يمكنُ أنْ نستخلص على أنَّ ابن خلدون وانطلاقاً من اعترافاته أنَّه عالم تاريخ بقدر ما هو عالم اجتماع.
حيث انصبَّ اهتمامهُ على الحياة الاجتماعية، عكس أوغست كونت فإنَّ ابن خلدون كان يهدف من دراسة علم الاجتماع هو أنْ يدرسَ التاريخ وتعاقُب الدول الحاكمة.
وفي هذا الصدد نجد المصري طه حسين في كتابه “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية” يقول: “الاجتماع في نظرِ ابن خلدون ليس سوى غاية واحدة هي شرح تاريخ المجتمع البشري والتكهن بمستقبلهِ”.
كما أنَّ ابن خلدون كان مقيداً بالمرجعية الدينية أي غياب الموضوعية وهذا ما عابَ على ابن خلدون.
إن المؤرخ التونسي عبد الرحمن ابن خلدون ( 1406-1332 ) لم يتحدث لنا في مقدمته عن الحياة الاجتماعية قط، بل تحدث عن الحياة العمرانية عكس “أوغست كونت” ( 1857-1798).
فجلُّ الخلدونية هي مصطلحاتٌ تاريخية لا اجتماعية مثل: (العصبيات، التوحش، التأنُّس …).
فهذه المفاهيم تخدمُ التاريخ ولا تخدمُ المجتمع، خاصةً المجتمع المُعاصر مع أوغست كونت الذي كانت جلُّ مفاهيمه تتماشى وتتساير مع واقعه المُعاش الذي فرضتهُ الثورة الفرنسية سنة 1789م.
إنَّ النظرة الخلدونية هي نظرة تقديسية للفرد. أمَّا نظرة أوغست كونت جعلت الفرد مثله مثل الآلة أي إنَّه فاعل وعامل في المجتمع الإنساني.
ويمكن اعتبار الدراسة الخلدونية في علم العمران البشري دراسة تؤرخُ لجيل مضى، لأنَّ تلك الطريقة التي رسمها ابن خلدون في خضمِّ دراستهِ لهذا العلم الاجتماعي الإنساني قد أُعيقت نتيجة تغيُّرِ الواقع الذي تم إحياءُهُ مع أوغست كونت.
وبالتالي يمكنُ القول بأنَّ علم الاجتماع في عصر ابن خلدون هو دراسةُ ما ينبغي أنْ يكون.
أمَّا مع أوغست كونت هو دراسةُ ما هو كائن أي دراسةُ ما يفرضهُ المجتمع نتيجة الثورة الفرنسية ومُخلَّفاتِها، وبالتالي لا يمكن أن نقول بمسألة التأسيس عند ابن خلدون.
أوغست كونت ونظرته إلى علم الاجتماع
لقد عرف عصرُ أوغست كونت انفصال جميع العلوم عن الفلسفة، الشيء الذي لم يكن مع ابن خلدون إلى جانب الشروط التي لم تتوفر لهُ وهي استقلالية هذا العلم عن الفلسفة وتعبيره عن حاجة وضرورة ويجبُ أنْ تكون له مرجعية وإطار مَرجعي مستقل، وأنْ يكون له موضوع خاص به.
عكس أوغست كونت الذي توفرت له هذه الشروط وساعدته على تأسيس علم الاجتماع وأطلق عليه في الأول لفظ “الفيزياء الاجتماعية” ثم نحت له اسم “علم الاجتماع” أو “السوسيولوجيا”.
وفي هذا الصدد نجد عالم الاجتماع العراقي “علي الوردي” في كتابه “منطق ابن خلدون” يقول:
أوغست كونت وقانون الحالات الثلاث
“ظهر أوغست كونت في الوقت الذي كانَ فيه الجو الفكري في حاجةٍ ماسة إلى علم الاجتماع، فلقيَّت صيحة “كونت” أذاناً صاغية وبدأ علم الاجتماع يتطورُ إلى أنْ وَصَلَ إلى هذا الوضع الذي نشهدُهُ اليوم”.
درس أوغست كونت المجتمع من خلال “قانون الحالات الثلاث “، وهي الحالة اللاهوتية أي تفسير الأشياء والظواهر بإرجاعها إلى أشياء غيبية، ثم الحالة الميتافيزيقية أي تفسير وتحليل الظواهر بإرجاعها إلى أشياء مُطلقة.
أمَّا الحالة الأخيرة هي الوضعية وهي آخر ما وصل إليه الفكر في نظر أوغست كونت وتقوم الوضعية على أساس العلمي وعملي وتنطلق من التجربة.
نخلص إلى أنَّ علم الاجتماع مرَّ بمرحلتين أساسيتين
الأولى هي المرحلة المعيارية مع “ابن خلدون” وهي تفسيرُ الظواهر تفسيراً فلسفيا اجتماعياً.
والمرحلة الثانية هي مرحلة فكرية وقد تم انفصالُ التفكير الاجتماعي عن الفلسفي، واستقلَّ فيها علم الاجتماع بذاتهِ مع أوغست كونت، وبالتالي يمكنُ اعتبار هذا الأخير هو المؤسس الفِعلي لعلم الاجتماع.
إميل دوركايم ودوره في علم الاجتماع
مع كلِّ هذا إلاَّ أنَّ الفرنسي الآخر إميل دوركايم (1917- 1857 ) قد لَعِبَ دوراً مهماً في علم الاجتماع. لقد اشتغل دوركايم على الظاهرة الاجتماعية ودرسها من عدةِ جوانب.
ومن أهم خصائص الظاهرة الاجتماعية هي أنها خاصية إنسانية، أي أنها انبثقت من الإنسان باعتباره كائناً اجتماعيا، والظاهرة الاجتماعية هي عبارة عن أساليب للتفكير والعمل الإنساني. الظاهرة الاجتماعية هي شيئية أي خارجية ولا تتغير.
لقد ركَّز إميل دوركايم على خاصية القهر والإلزام لأنَّ الأفراد في المجتمع لا يتمتعونَ بهامشٍ من الحرية، هنا الحديث عن مفهوم الوعي الجمعي بمعنى أن المجتمع يفرض سلطة خطيرة على الأفراد، إن هيمنة المجتمع تجعل الفرد مقيدا.
انطلاقاً مما سبق يتبينُ لنا أنَّ مسألة تأسيس علم الاجتماع قد عرفت عِدَّة دراسات يمكنُ حصرُها في تراكمات فكرية إلاَّ أنَّ الأقربَ إلى الصواب في مسألة التأسيس هو أوغست كونت.
أما ابن خلدون فإنَّه قد وضع الحجر الأساس لهذا العلم إلى أن جاء أوغست كونت وشيَّدَ هذه العمارة في القرن التاسع عشر وأطلقَ عليها اسم “علم الاجتماع”.
ثم أتى تلميذه إميل دوركايم الذي درس الظوار الاجتماعية دراسة ميدانية وفَكَّكَ الظاهرة الاجتماعية وأهم خصائصها.
ولكن هذه الجدلية التاريخية لا يمكن الحسم فيها بتاتا من وجهة نظري الخاصة؛ لأن كل معرفة تأتي عبر تراكمات فكرية،.
فابن خلدون كان أول من اهتم بالاجتماع الإنساني لأن التفكير الاجتماعي قديم قدم الإنسان.
أما أوغست كونت تميز على ابن خلدون بنوع من الموضوعية.
وأخيرا إميل دوركايم درس الظواهر الاجتماعية دراسة ميدانية، إذن فكل هؤلاء هم مؤسسون لهذا العلم.