الحياةُ ضيفٌ راحل، ورغم أنَّها ضيفٌ فإنَّها تحرمُنا من العيشِ بسلام.
دخلتُ إلى غرفةٍ ضيقة، تتخلَّلُها ظلمَةٌ حالِكة يَندى لها الجَبينُ ولا تستحِقُّ أي اهتمام. رائحةُ الموتِ تُرفرِفُ في الأُفق، لا صوتَ يعلو فوقَ صوتِ الألم، الرؤوس يتطايرُ منها الشعر كما تتطايرُ شرارةٌ جَرّاء احتكاكِ آلةٍ بأخرى، الكيماويُّ ينخرُ الأجساد، أصابعُهم زرقاء، أعينُهم تَرى الموت، فأحياناً يتمنونَ الموت للهروبِ من هذا الألمِ المُفزع وحينة أخرى يبدأُ سؤالُ الشفاءِ يقرعُ رؤوسهم دونَ سابقِ إنذار.
الحائلْ، سرطانٌ غيرُ رحيمٍ بمن اُبتليَّ به. بعد خروجي من تلكَ الغرفة التي يَملؤها السَّوادُ السرمديّ، فأنا قدْ استنشقتُ هواءَ الموتِ، أمّا هم (المرضى)، فقد استنشقوا هواءَ الصِّحةِ والعافية، ليُرسلوا لي بعد ذلك رسالةً مشفرة حُبلى بأبعادَ رمزية، مَفادُها أنَّ الحياةَ ضيفٌ راحِل.
بعدها تَصبَّبَ جبيني عرقاً، وارتجفَ قلبي، وارتعشتُ جرّاءَ تذوقي لملوحةِ الدُّموع، كلُّ هذا حدثَ بعد حوارٍ قصيرٍ مع الذاكرة. كنتُ طِفلاً ينيرُ وجهي بنورِ الطفولةِ والبراءَةُ تَسري في عُروقي، إلى أنْ تسللَ إليَّ المرضُ مِنْ بينِ أصابعِ القدرِ ليُصيبني برصاصةِ الرحمة مع سبقِ الإصرار والترصد. بدأتُ أتلاشى شيئاً فشيئاً، مثل تلاشي ذخانِ سيجارةٍ في الهواء. أصبحَ جسمي يَئِنُّ من هولِ الألمِ، ومرارةُ الموت تمرُّ مرور الكرامِ من أمامِي في لمحِ البصر.
في كلِّ مرةٍ أرى فيها طِفلاً بعددِ كُراتِ “ميسي” الذهبية (خمسُ سنوات) في مثل سني، تُصيبني الحساسيةُ جراء غبارِ المرضِ الذي بدأَ يأكلني رويداً رويدا. بدأت حلاوةُ الحياة تنقشِع. وبدأَ سؤالُ الموتِ يُدغذغُ رأسيّ باكراً كلَّما ثاب للآتي. جسدي يرتجف، وما السبيل، الصدأُ يتربَّصُ بي بينَ الفينةِ والأخرى دونَ أنْ أحرِّكَ ساكناً، لا صديقٌ ولا حبيبٌ سِوى كيسُ الدواء الذي يُصدرُ صوتاً مُزعجا يفزعُ له من في القبور. تبادر إلى ذهني أنني جئتُ إلى هذا الوجودِ بلا موعدٍ، وها أنا الآن سأرحلُ بدونِ موعد.
المرضُ لا يرحم، وما يُزعجني هي تلك الدموع التي تُكَفْكِفُها أمي صباحَ مساءْ. وأردُّ عليها بصوتٍ داخليٍّ قائلاً: “البكاءُ ملحمةُ العاجزينَ عن الصهيلِ في المواكب، مرثيةٌ للوافدينَ حديثاً على خيامِ البدوِ.
بعد صراعٍ طويل الأمدِ، فُتِحَ لي بابُ النجاةِ على مِصرعيه، ليُكتبَ لي تاريخٌ جديد، وها أنا أمامكم بِلَوني، بِشَعري، بِشَكْلِي، سأقولُ لكم كلمةً لا توجدُ لا في اللغة العَربية، ولا البَابلية، ولا المِسمارية، بلْ توجدُ في لغةِ الحياة:
“أنا سليلُ الصُّدفةِ، أنا أنحدرُ مِنْ حُبٍّ ورغبةٍ وشهوةٍ وانتصابٍ ولذَّةٍ وانتِشاء. أنا الوحيدُ أسمي الرحم الذي نماني، الرحمة والرحمانَ، دخلتُ إلى الرحمِ فاتِحاً مُنتصراً وخرجتُ لا شيءَ يَهزمني”.