في الثاني عشر من شهر فبراير، حلت ذكرى رحيل حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول، إلا أن المُنظّر الحقيقي للجماعة والحركة الإسلامية التي تولَّدت عنها أو تأثرت بها على هذا النحو أو ذاك هو الأديب والناقد سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي (9 أكتوبر 1906م – 29 أغسطس 1966م).
فقد مَثَّل كتاب سيد قطب المشهور معالم في الطريق، عبر حقب عدة، نبراسا للإسلام السياسي ومرجعا فكريا محوريا لمعظم التيارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، حتى تلك التي أغرقت في المغالاة والتطرف.
فمن هو سيد قطب وعلى ماذا ينطوي كتابه الذي انقسم حوله القوم بين مهلِّل آمن بما جاء فيه إيمانا أعمى ومنتقد سخط عليه سخطا عظيما؟
سيد قطب .. في البدء كان الأدب
ولد سيد قطب عام 1906 في موشا، قرية صغيرة تابعة لأسيوط- وهي نفسها المحافظة الصعيدية التي ينحدر منها جمال عبد الناصر، الذي كانت له الكلمة الفصل في قرار تغييب الرجل عن الدنيا بداية سنة 1966.
يحكي سيد قطب عن طفولته في كتابه طفل من القرية، متأثرا دون أدنى شك بسيرة طه حسين الذاتية، الأيام.
التحق سيد قطب بدار المعلمين سنة 1928- تاريخ تأسيس الجماعة- بيد أن أفكاره في تلك الفترة كانت أبعد أن تتماهى مع مبادئ وتوجهات الجماعة ومؤسسها؛ فقد كان حينئذ ميّالا كل الميل للأدب والشعر وكان من أوائل المنتسبين لجماعة أبولو، ذات النزعة الرومانسية.
يذكر أنه أول من تفطَّن لموهبة نجيب محفوظ وهو بعد يتلمس طريقه بخطى خجولة في مجال القصة والأدب وقَدَّمه للقراء أحسن تقديم.
سيد قطب .. الحاكمية، الطاعة لله لا لغيره
أثار كتاب معالم في الطريق إثر صدوره أول مرة سنة 1954 عن مكتبة وهبة للطبع والنشر، مُحَاجَّة وجدلا واسعين بين المهتمين بالفكر الإسلامي المعاصر، وأسال كثيرا من المداد ليوصل صاحبه نهاية الأمر إلى حبل المشنقة.
كتاب معالم في الطريق كتاب مقتضب، على جانب كبير من السلاسة والوضوح، وهاهنا يكمن ربما سر تداوله على نطاق واسع في العالم العربي ووصوله لشرائح عريضة من المجتمع.
بنى سيد قطب أطروحته على أقطاب ثلاثة، استلهم بعضا منها كما هو معلوم من كتاب أبي الأعلى المودودي (1903-1979)، منهاج الانقلاب الاسلامي وتعهدها بالشرح وبيَّنها بيانا شافيا: الحاكمية، العصبة المؤمنة والعزلة الشعورية. سنتعرض لبعض منها دون إسهاب وذلك على ضوء مقتطفات من الكتاب المذكور.
افتتح سيد قطب هذه الأطروحة بالحديث عن جيل الصحابة قبل أن يعرج على حالة المجتمع الاسلامي في الخمسينات واصفا إياه بالجاهلي ومن ثمة فالحل، حسب منظوره الخاص، هو بكل بساطة ابتناء نظام إسلامي محكم المعالم، واضح المقاصد.
مستهل في كتاب معالم في الطريق
يقول سيد قطب في مستهل كتابه الذي يضم ثلاثة عشر فصلا، أطولها لا يتجاوز بضعة وعشرين صفحة:
“نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية، تصورات الناس، عقائدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم و آدابهم، شراؤهم و قوانينهم…”.
أما الحاكمية في مذهب سيد قطب فتعني أن الله هو حاكم الكون الأوحد، يبسط كامل سلطته على كافة المخلوقات. ومنه فالطاعة حق يستأثر به الخالق لنفسه دون سواه:
“هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الارض وعلى أخص خصائص الألوهية.. وهي الحاكمية.. إنها تسند الحاكمية للبشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة إدعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله عن الحياة، وفي ما لم يأذن به الله.”
تماشيا مع هذا الطرح، كان سيد قطب يرى أنه:
“أنه لابد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعا. تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب، ونوعا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة.”
سيد قطب والتكفير
لم يدع سيد قطب إلى تكفير المجتمع بشكل صريح، لا لبس فيه ولم يحرض في أي موضع من كتابه الآنف الذكر على العنف والاقتتال.
فكل ما دعا إليه سيد قطب هو مجابهة الظلم ومقارعة الاستبداد والمستبدين دونما إراقة للدماء.
كما نص سيد قطب على ضرورة العودة إلى تعاليم الإسلام السمحة والتشبث بالقيم التي تنمو معها حياة الإنسان نموا صحيحا وتترقى على نحو سليم وصحيح.
“الجهاد في الإسلام أمر آخر لا علاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها ولا تكييفها كذلك. إن بواعث الجهاد في الإسلام يجب تلمسها في طبيعة “الإسلام” ذاته ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قررها الله.”
لكن الذين جاؤوا بعده حادوا عن مذهبه فمنهم من اعتزل الناس، حاكمين ومحكومين، وكَفَّرهم ودعا لقتالهم ومنهم بالمقابل من هادن الحاكم الغاشم وعاش في كنفه.
دفع سيد قطب روحه ثمنا لتمسكه الشديد بأفكاره وإيمانه بها لآخر رمق وكأنه كان يرحب بالمنية، لا يهابها وهو ينشد من غياهب محبسه الكئيب:
أخي هل تُراك سئمت الكفاح *** وألقيت عن كاهليك السلاح
فمن للضحايا يواسي الجراح *** ويرفع راياتها من جديد
أخي هل سمعت أنين التراب *** تدُكّ حَصاه جيوشُ الخراب
تُمَزقُ أحشاءه بالحراب *** وتصفعهُ وهو صلب عنيد
أخي إنني اليوم صلب المراس *** أدُك صخور الجبال الرواس
غدا سأشيح بفأس الخلاص *** رؤوس الأفاعي إلى أن تبيد
أخي إن ذرفت علىّ الدموع *** وبللّت قبري بها في خشوع
فأوقد لهم من رفاتي الشموع *** وسيروا بها نحو مجد تليد
جميييل