“على هذه الأرض ما يستحق الحياة” مقولة للكاتب والشاعر محمود درويش، طالما أحببتها ونشرتها مستدلة بذلك على ما يبقينا صامدين، وأننا قد نتحمل مرارة الحياة من أجل أشياء كثيرة حلوة؛ لكنها أصبحت تسكن فكري بشكل مخيف، وأنا أبحث عن أسباب قد تبقينا أحياء، في أرض عليها ما يستحق الحياة.
ثم تبادر إلى ذهني الصور المنقولة عن فلسطين وبلاد الشام، تلك النسوة وهن يحملن أشلاء أطفالهن الصغار جدا، والآباء وقد زلزل ثباتهم رصاص وصواريخ أردت أبناءهم جثثا ساكنة عن أوجاعهم، وهم يحملونهم إلى المقابر عوض المدارس.
ثم ذلك الطفل الذي يبكي فوق رأس أبيه الشهيد، ووحده الله يعلم ما يجول في قلبه الرقيق من ألم، تلك البنايات التي استوت بالأرض، ولعب الأطفال التي تعلوا أطلال البيوت لون الدم، الذي يكسو الشوارع، ورائحة الرصاص التي لا يخلو منها الجو.
وليس ببعيد عن ذلك، في البلدان التي “لحسن حظها” لا تعلم عن تلك الحرب إلا قليلا، لكن حالها ربما أكثر سوءا من بلاد دمرتها النزاعات، فلا صحة فيها ولا تعليم، ولا بنيات تحتية، لا شيء فيها يدل على انعدام الحرب.
مستشفيات تفتقر إلى أبسط المعدات والتقنيات، تنتقل فيها العدوى بكل حرية بين المرضى والأطباء، فيسعف المريض مريضا، ثم تلد النساء على ممرات الغرف لا سرير يحمل أثقالها ولا حجرة تجمع أنينها، وقد يختطف الرضيع من حضنها إن هي قد غفت، مستعجلات يحتج فيها الجريح على جرحه، والطبيب على مصيره، لكن ما من أحد يسمع صداهم.
ومدارس أشبه بما تركته الصواريخ عند مرورها فوق القرى، نائية في قمم الجبال، لا يصلها المعلم إلا بعد أن يلعن قدره، ولا يدخلها التلميذ؛ وإن دخلها؛ إلا بعد أن يقطع أميالا كالمهاجر قبل ألف سنة، قد تنهار بعد غيمة ماء، وقد تحملها النسائم إلى أطراف الأرض.
انتفاضات بالجملة، فلا العامل في رخاء ولا العاطل في هناء، والمثقف والأمي في صفوف مشتركة، كل يهتف فما على أرضهم ما يستحق الحياة..!
وشوارع كالطرق الخالية، لا يملؤها إلا قطاع الطرق، لا أحد يمشي مرتاح البال نحو مقصده، يشك المار في من حوله، وقصص الجرائم تغزو الجرائد والنشرات، اغتصاب، اختطاف، قتل وتعذيب، كأن الإنسانية اجتثت من قلوب البشر..
هذه الحياة التي تغدو أكثر توحشا بعد كل يوم، التي تعود بأمراضها نحو القرون المنصرمة، سل وكوليرا وربما أكثر من ذلك لكنها لم تذكر، تخاف البلدان ذات الأبواب المهترئة غزو الكوليرا من جديد، ويسرح السل في مستشفياتها بين العاملين والمرضى كأنه فرد من طاقم العلاج.
هي ذاتها الحياة التي يزعج فيها حاضر الأطفال آباهم، والتفكير في مستقبلهم يخيفهم، بلاد يفكر فيها الطفل في الهجرة قبل الشاب، ويندم فيها الشيخ على سنينه التي هدرت عندما قرر البقاء واعتزل الغربة، لا أحد يقوى فيها على تخيل مستقبله، وكل يخشى أن تصبح أعوام دراسته وليالي تعبه هباء منثورا في أركان هذه الأرض..
وأخيرا، كثيرة هي الأسباب التي لا تجعل من أرضنا مكانا يستحق الحياة فيه ولأجله، لكن، كلماتي هذه ليست دعوة للانتحار أو رجاء بالاستسلام، هي فقط تذكير بأن التغيير واجب وفرض عين، كي يصبح على هذه الأرض ما يستحق الحياة..
تعليق واحد